رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

موجة جديدة من تآكل نظرية الردع الإسرائيلية

توافقت العديد من التحليلات على أن ما قامت به الفصائل الفلسطينية فى 7 أكتوبر 2023 ضد إسرائيل كانت عملية كاشفة عن تآكل نظريتى الأمن والردع الإسرائيليتين. وردا على ذلك، فإن أحد الأهداف الأساسية للعدوان الإسرائيلى الجارى هو محاولة ترميم هذا الخلل الذى أصاب هاتين النظريتين. لقد عمل الجانب الإسرائيلى فى هذا السياق فى مسارات عدة. المسار الأول، هو استهداف التدمير الكامل لقطاع غزة، دونما أى تمييز بين مدنيين وغير مدنيين، بنية قتالية أو مدنية. الرسالة المقصودة هنا هى رسالة مزدوجة؛ وجهها الأول أن تكلفة الهجوم على إسرائيل ستكون باهظة، ووجهها الثانى أن المواطنين الفلسطينيين يجب أن يتحملوا ثمن السماح لاحتواء حماس أو السماح لها بتنفيذ مثل هذه العملية، على أمل -وفقا للحسابات الإسرائيلية- أن يستوعب الفلسطينيون هذا الدرس وأن يقوموا بواجبهم بلفظ هذه التنظيمات أو منعها من إعادة تنفيذ مثل هذه العمليات مرة أخرى. المسار الثاني، هو العمل على إنهاء فرضية عدم قدرة الاقتصاد الإسرائيلى على الدخول فى حرب طويلة نسبيا لاعتبارات تتعلق بطبيعة نظام التجنيد الذى يعتمد على نظام الاحتياط، الأمر الذى يعنى تأثر العمليات الإنتاجية سلبيا فى حالة إطالة أمد الحرب كنتيجة لسحب الاحتياط من أسواق العمل الطبيعية. العدوان الجارى على قطاع غزة دخل شهره الحادى عشر، مما يمثل أطول حرب تتورط فيها إسرائيل بالمقارنة بالحروب السابقة منذ بدء احتلال الأراضى الفلسطينية.

المسار الثالث هو العمل على إنهاء فرضية أخرى مفادها عدم قدرة إسرائيل على خوض الحرب فى أكثر من جبهة واحدة فى وقت واحد. لقد حرص الجانب الإسرائيلى منذ بدء العدوان على قطاع غزة على العمل على عدد من الجبهات، شملت، بالإضافة إلى غزة، الجبهة اللبنانية، والداخل الإيراني، واليمن، وغيرها. ربما بعض هذه الجبهات فرضت نفسها، أو كان العمل عليها حتميا كجزء من دعم العدوان الجارى داخل قطاع غزة، لكن بعض العمليات الإسرائيلية داخل بعض هذه الجبهات جاءت بمبادرة إسرائيلية.

لكن رغم ما يبدو عليه الأمر من تصرف إسرائيل وفق «إستراتيجية ممنهجة» فى ترميم نظريتى الأمن والردع الإسرائيليتين، فإن هذه «المنهجية» يكتنفها العديد من مواطن الضعف على عكس الحسابات والأهداف الإسرائيلية.


أول مظاهر هذا الضعف أن ما يبدو من «نجاحات» إسرائيلية ارتبط بالأساس بحالة من الدعم والإسناد الأمريكى والغربى غير المسبوق منذ بدء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، وهو دعم لم تحصل عليه إسرائيل فى كل موجات التصعيد السابقة التى نفذتها ضد الأراضى الفلسطينية، بل لم تحصل عليه فى أى من حروبها السابقة. هذا الدعم هو امتداد لمظلة الحماية الأمريكية لإسرائيل فى المنطقة، لكنه جاء فى جزء منه نتيجة لحسابات أمريكية تتعلق بالصراع الجارى على قمة النظام العالمى مع الصين وروسيا، حيث يمكن النظر إلى هذا الدعم كرسالة أمريكية موجهة لهذه القوى بأن الولايات المتحدة مازالت هى القوة الدولية المتنفذة فى الإقليم وفى السياسات العالمية، وفى جزء آخر هو نتيجة لحسابات تتعلق بالمنافسة الانتخابية بين الديمقراطيين والجمهوريين.

من ناحية أخرى، فإن السلوكيات الإسرائيلية فى الإقليم منذ بدء العدوان على قطاع غزة ارتبطت بحسابات خاصة بنيتانياهو نفسه الذى بدأ حكومته السادسة فى أواخر ديسمبر 2022، بأزمة سياسية داخلية حادة، تحولت إلى انكشاف أمنى خارجى كبير، على أثر أحداث 7 أكتوبر 2023، الأمر الذى أسهم فى تطور قناعة داخل إسرائيل بحتمية مواجهة نيتانياهو لحظة «حساب سياسي»، فور خروجه من السلطة، أو فور انتهاء العدوان الجارى على القطاع. فى المقابل، سعى نيتانياهو إلى إبعاد هذا السيناريو من خلال العمل على مسارين، أولهما إطالة أمد الحرب إلى أقصى مدى زمنى ممكن، وثانيهما إعادة تقديم نفسه على أنه البديل الوحيد المتاح داخل إسرائيل للتعامل مع كل ما يمكن اعتباره مصدرا لتهديد أمن إسرائيل وأمن المواطن الإسرائيلي. من ثم، فإن العمل على جبهات عدة فى توقيت متزامن لا يمكن فهمه بمعزل عن مصلحة ذاتية لدى نيتانياهو فى إطالة أمد الأزمة والعمل على توسيع نطاقها من خلال خلط الأوراق فى الإٍقليم. وارتباطا بذلك، يحاول نيتانياهو إعادة الإقليم إلى حالة الاستقطاب التى تراجعت حدتها خلال العامين الأخيرين، باعتبار أن حالة الاستقطاب تلك تمثل المناخ الملائم لإطالة أمد الأزمة، وإثارة أكبر عدد من الفاعلين من غير الدولة الذين دخلوا على خط المواجهة المباشرة مع إسرائيل، بعد أن كان الأمر يقتصر على فاعلين بعينهم.

هكذا، فإن ما سعى نيتانياهو إلى تصديره، للداخل الإسرائيلى وإلى الإقليم، على أنه جزء من إستراتيجية «ممنهجة» لترميم نظريتى الأمن والردع الإسرائيليتين، هو فى الحقيقة يرتبط باعتبارات وحسابات محددة، إما أنها ترتبط بالحليف الخارجى (الولايات المتحدة الأمريكية) وإما بحسابات ذاتية تخص شخص نيتانياهو نفسه. من ناحية ثانية، فإن حسابا دقيقا لتأثير هذه السلوكيات الإسرائيلية على نظريتى الأمن والردع يجب أن يبدأ بإجابة الجانب الإسرائيلى على مجموعة من التساؤلات المهمة، منها: هل ساهمت هذه السلوكيات فى القضاء على كل أشكال تهديد الأمن القومى الإسرائيلي؟ هل تضمن هذه السلوكيات القضاء على الفاعلين من دون الدولة فى المنطقة والذين دخلوا على خط المواجهة المباشرة مع إسرائيل؟ هل ساهم الحضور العسكرى الأمريكى فى القضاء على ما تعتبره إسرائيل مصادر لتهديد أمنها القومي، بدءا من الفاعلين من دون الدولة؟ هل أدى تدمير قطاع غزة إلى تغيير إدراكات وتوجهات الفلسطينيين نحو حماس والفصائل الفلسطينية؟ ما هو تأثير هذا الدمار على توجهات وإدراكات الأجيال القادمة من الفلسطينيين وفى العالم الإسلامي؟ وما هو حجم تأثير هذه السلوكيات على توجهات الأجيال الجديدة داخل المجتمعات الغربية، بما فى ذلك الولايات المتحدة نفسها؟ هل أدت هذه السلوكيات إلى استعادة ثقة المواطن الإسرائيلى فى مؤسساته السياسية والأمنية؟ وما هو تأثير هذه السلوكيات الإسرائيلية على درجة التماسك السياسى الداخلي؟ وما هو تأثير كل ذلك على جاذبية «النموذج الإسرائيلي» بالنسبة ليهود العالم؟

بعض هذه التساؤلات قد تبدو ذات طبيعة غير أمنية، أو لا علاقة مباشرة لها بالأمن القومي، أو أنها لا ترتبط بموازين القوى الفعلية، لكنها تحمل دلالات أمنية مهمة على المدى البعيد نسبيا. وليس من المتوقع أن تصل إسرائيل إلى إجابات موضوعية وواقعية على هذه التساؤلات، بسبب طبيعة النخب السياسية الحاكمة حاليا فى إسرائيل، وطبيعة النظام السياسى الإسرائيلى الذى روج نفسه على أنه «النظام الديمقراطي» الوحيد فى الإقليم، لكنه قدم فى الواقع مثالا للديمقراطية الشكلية الهشة، التى قادت إلى هيمنة اليمين الدينى المتطرف، والتى جاءت فى التحليل الأخير على حساب الاستقرار السياسى والحكومى الداخلي، وعلى حساب الأمن القومي، بل وأنتجت سياسات خارجية أصبحت مصدرا رئيسا لعدم استقرار الإقليم.

دون حسابات دقيقة وموضوعية، ودون إجابات صادقة على التساؤلات السابقة وغيرها، قد تجد إسرائيل نفسها أمام موجة أخرى من تآكل نظريتى الأمن والردع اللتين تسعى إلى ترميمهما منذ 7 أكتوبر حتى الآن على حساب الأمن الإقليمى.

 

رغم ما يبدو عليه الأمر من تصرف إسرائيل وفق «إستراتيجية ممنهجة» فى ترميم نظريتى الأمن والردع الإسرائيليتين، فإن هذه «المنهجية» يكتنفها العديد من مواطن الضعف على عكس الحسابات والأهداف الإسرائيلية.

[email protected]
لمزيد من مقالات محمد فايز فرحات

رابط دائم: