رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

التنمية والأمن القومى والسياسة الخارجية

تتمنى كل الأمم لو أنها تحقق مستويات متقدمة من التنمية. بالنسبة لبعض الأمم فإن تحقيق التنمية لم يكن مجرد نتيجة للرغبة فى الوصول إلى مستوى معيشة لائق لمواطنيها، وإنما أيضا لأن بقاء هذه الأمم وأمنها القومى يتوقف على تحقيق تنمية اقتصادية سريعة وناجحة. كوريا الجنوبية وتايوان نموذجان لدول كانت فيها التنمية ضرورة أمنية، فالبلدان كانا معرضين لفقدان استقلالهما والاختفاء من الخريطة كدول مستقلة، لولا نجاحهما الباهر فى تحقيق التنمية. عندما انقسمت شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين، شمالية وجنوبية، كان القسم الجنوبى من شبه الجزيرة هو الجزء الأقل نموا، فالمراكز الصناعية والبنية التحتية الأكثر تطورا كانت مركزة فى الشمال الأكثر تقدما.كان الكوريون الجنوبيون يهربون إلى الشمال بحثا عن حياة أفضل، بينما ألهمت القيادة السياسية والعقيدة الشيوعية القادمة من الشمال تمردات عصابات مسلحة موالية للشمال. بنت كوريا الشمالية جيشا قويا، اجتاحت به كوريا الجنوبية عام 1950. كاد المهاجمون يحققون هدفهم لولا تدخل الولايات المتحدة لإنقاذ كوريا الجنوبية. انتهت الحرب الكورية عام 1953، وبعدها شرعت كوريا الجنوبية فى تنفيذ واحدة من أنجح خطط التنمية فى القرن العشرين، والتى أدخلتها إلى نادى العشرين الكبار، وجعلتها من أهم منتجى السلع العالية المكون التكنولوجي. استخدمت كوريا الجنوبية الفوائض المالية الضخمة التى حققتها لبناء خامس أقوى جيوش العالم. لم يعد المواطنون الكوريون الجنوبيون يهربون إلى الشمال، أوينصتون للدعاية القادمة من هناك. تعزز الامن الوطنى لكوريا الجنوبية عندما نجحت فى تحقيق تنمية اقتصادية مكنتها من كسب ولاء مواطنيها، وبناء جيش قوى قادر على الدفاع عن البلاد. بدون النجاح الاقتصادى المبهر ربما كان مصير كوريا الجنوبية مختلفا تماما عن المكانة المرموقة التى تحتلها الآن.

فيتنام هو بلد آخر من تلك البلاد التى تم تقسيمها بين دولتين شمالية وجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية. رغم الدعم العسكرى الأمريكى الهائل، لم تتمكن فيتنام الجنوبية من مواصلة البقاء، فسقطت فى يد شقيقتها الشمالية عام 1975. أسباب إخفاق فيتنام الجنوبية كثيرة، ومن أهمها فشل النخبة الحاكمة هناك فى تطبيق خطة تنمية وإصلاح، بسبب فساد النخبة الحاكمة وانقسامها وضعف تكوينها المهنى والثقافى.

تايوان هى قصة نجاح تم فيها توظيف التنمية الاقتصادية لتحقيق الأمن القومى. تايوان هى جزيرة منشقة عن الصين، وهى بكل تأكيد أضعف من أن تتصدى للجيش الصينى لو قررت بكين ضم تايوان عنوة. غير أن مزيج النهضة الاقتصادية الكبرى، وشبكة الشركاء الاقتصاديين والتكنولوجيين المنتشرة فى أهم مراكز الاستثمار والابتكار فى العالم، والالتزام الدفاعى الأمريكي؛ مكن تايوان الصغيرة، ذات الأربعة والعشرين مليون نسمة، من الحفاظ على بقائها حتى الآن، وأظن أنه لو كانت تايوان واحدة من حالات الإخفاق الكثيرة المنتشرة فى العالم النامى لما اهتم الأمريكيون بالدفاع عنها لهذه الدرجة، وما كان لتايوان أن تتمتع بدعم شركاء كثيرين يهتمون بمصيرها.

الصلة وثيقة بين الأمن القومى والتنمية، بما يبرر اعتبار التنمية، فى حالات ليست قليلة، قضية أمن قومي. فعندما يؤدى إخفاق التنمية إلى تعريض الأمن القومى للتهديد، وإلى غل يد الدولة فى الدفاع عن أمنها القومى، تصبح التنمية قضية أمن قومي.

اعتبار التنمية قضية أمن قومى لا يعنى وضع المسئولية عنها فى يد الأمنيين فقط، فأصحاب الاختصاص هم الأكثر ملاءمة وكفاءة للتعامل مع التنمية. القول إن التنمية قضية أمن قومى هو تأكيد للصلة المباشرة بين التنمية والأمن القومى، سلبا أو إيجابا، وهو دعوة لأخذ قضية التنمية بأقصى قدر من الجدية، وتحريرها من جماعات المصالح التى لا ترى فى التنمية سوى فرصة لمكسب سريع بأساليب لا تعزز مناعة الوطن أو تعظم قدرته.

التنمية هى السبيل الأهم لتعزيز شرعية الحكم المبنية على الإنجاز، وكسب رضا المواطنين ودعمهم لمؤسسات الدولة، وضمان الاستقرار؛ وهذه قضايا أمن قومي. التنمية قضية أمن قومى لأن تكلفة الدفاع الفعال باهظة فى عصر التكنولوجيات المتقدمة، وبغير فائض اقتصادى يسمح بتخصيص موارد كافية للدفاع فإن الأمن القومى يتأثر سلبا.

السياسة الخارجية النشيطة هى وسيلة أساسية لتعزيز الأمن القومي. الأداة الاقتصادية هى من أهم أدوات السياسة الخارجية الناجحة، وبدونها تصبح الدبلوماسية بلاغة فارغة لا يتم أخذها بجدية. الدبلوماسية الناجحة تقدم مساعدات لدول تمر بضائقة، وتستثمر فى أسواق توجد مصلحة فى إنعاشها، بغرض ربط المصالح، وضمان ولاء النخب والحكومات. السياسة الخارجية الناجحة هى سياسة باهظة الكلفة، خاصة فى منطقتنا المشهورة بلاعبين لديهم ملاءة مالية عالية.

نحن نعيش فى منطقة شديدة الخطورة، يجتمع فيها عدد كبير من بلاد انهارت فيها الدولة، ودول لديها خطط للهيمنة الإقليمية، مستندة إلى موارد مادية ورمزية وتحالفات دولية وشبكات علاقات إقليمية، وهذا مزيج ملتهب شديدة الخطورة.

الصراعات المسلحة تحيط بمصر من جميع الاتجاهات. الصراعات فى الجوار جذبت الجيران والغرباء. كل يسعى وراء مصلحة من نوع ما. بعض الغرباء يتدخلون ترويجا لسلاح يصنعونه. بعضهم يسعى وراء قواعد عسكرية تجعل منه رقما دائما فى منطقتنا، بينما البعض الآخر يسعى وراء مصلحة مادية مباشرة، كحقل نفط أو منجم ذهب، بالإضافة إلى آخرين ينفذون عملية استثمار سياسى لفائض ثروة زائد على الحاجة. تحقيق الأمن القومى فى هذه البيئة المعقدة هو أمر باهظ التكلفة فى حاجة إلى تنمية ناجحة تدعمه.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: