أسوأ نهاية يمكن الوصول إليها فى الحرب على غزة، هو اختطاف مجمل المشهد بكل ما جرى فيه لصالح الصراع الإسرائيلى مع إيران وأذرعها بالمنطقة. ليس فقط أن نهاية من هذا النوع؛ تخدم طرح رئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو الذى أطلقه منذ اللحظة الأولى لهجوم السابع من أكتوبر، وظل يلح عليه طوال الوقت لنزع الحق الفلسطينى مما يجرى على الأرض.
فمن وجهة النظر الإسرائيلية كانت تل أبيب فى حاجة إلى ما تواجه به، أن ما جرى فى 7 أكتوبر هو ردة فعل منطقية لتغول الاحتلال الإسرائيلى وانتهاكه لكافة الحقوق الفلسطينية، التى آن الأوان للنظر فى اعادتها إلى موائد التفاوض من أجل احياء المسار السياسى لحل إشكاليات هذا الوضع برمته. أنطونيو جوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة عندما تبنى هذا الطرح، وذكره علانية فى خطابات الشهور الأولى من عمر الحرب، واجه من إسرائيل ما تابعه العالم جميعا من تشويه وانتقاد وحصار دبلوماسى، ساهمت فيه الولايات المتحدة بصرامة استخدام حق النقض (الفيتو) أمام أى خطوة يمكن الوصول إليها أو اعتمادها من مجلس الأمن.
آلة الحرب الإسرائيلية مثلها مثل أية آلة عسكرية؛ تحتاج إلى عقيدة ومنطق سياسى يمكنها استخدامه عبر السياسيين فى اجتماعاتهم الرسمية وغير الرسمية، وأمام شاشات التلفزة وعدسات الكاميرات وميكروفونات وسائل الإعلام، كى تؤمن لها ظهيرا يضمن إمكانية بقاء الآلة العسكرية فى حالة الدوران، من أجل تحقيق المكاسب أو إيقاع أكبر قدر من الخسائر فى صفوف الجانب الآخر.
إسرائيل منذ اللحظة الأولى اعتمدت طرح رئيس وزرائها، حتى وإن بدا لعديد من أطراف الفعل العسكرى والاستخباراتى غير كاف وليس متماسكا بالقدر الذى يمكن من خلاله ضمان تحقيق النتائج المرجوة من الحرب على غزة. هذا الاطار السياسى باختصار، يتمثل فى أن إسرائيل إنما تواجه فى قطاع غزة «حلقة» من حلقات التهديد الإيرانى للمنطقة بأسرها، فالأمر ليس موصولا بشكل أو آخر لا بالاحتلال الإسرائيلى ولا بالحقوق الفلسطينية المشروعة، فحركة حماس التى تدير المواجهة العسكرية ضد دولة إسرائيل، ما هى إلا ذراع من أذرع المشروع الإيرانى بالمنطقة، مثلها مثل الحوثيين فى اليمن والحشد الشعبى العراقى وحزب الله اللبناني. وهذا قد يعيدنا إلى فصل قصير من الأحداث، قبيل اكتمال هذا الاطار ورسوخه فى المنطق الإسرائيلى، عندما حاول بنيامين نيتانياهو فى الأسابيع الأولى من الحرب تشبيه «حركة حماس» بـ»تنظيم داعش» الإرهابى، وكان هدفه حينها حشد أكبر مساحة من التأييد الدولى للحرب على غزة، بل وذهب إلى حد إمكانية استدعاء تشكيل «تحالف دولي» على غرار ما جرى فى سوريا والعراق، من أجل الحرب ومكافحة الإرهاب الفلسطيني.
لم يصمد هذا المنطق طويلا، وربما جرى مراجعته من قبل الولايات المتحدة وأيقنت أنه لن يمر ولن يكون كافيا للصمود أمام تفاعلات أحداث الحرب، لهذا انتقلت إسرائيل إلى استثمار البديل الذى كان يطرح حينها كعقيدة وإطار من الجانب الآخر، وهو مفهوم «وحدة الساحات» تعبيرا عن جاهزية الأذرع الإيرانية لتقديم الإسناد اللازم لفصائل قطاع غزة فى مواجهة الجيش الإسرائيلى. المتتبع لهذا المنحنى يدرك جيدا أن الحرب على غزة، مثلها مثل غيرها من الحروب يتفاعل اطارها السياسى والإعلامى فى التشكل والتطور بحسب مجريات الأوضاع الميدانية للحرب، لهذا لم تكن هناك صعوبة لفرز عديد من المواقف المؤثرة فى الصراع، وقراءة المدى الذى وصل إليها تفاعلها مع الحدث بمجمل مكوناته وتداعياته. الجناح العربى متمثلا فى الدول الرئيسية؛ وجد أهمية كبرى لاستثمار استعادة الاهتمام العالمى بالقضية الفلسطينية من أجل احياء المسار السياسى الذى يفضى بالضرورة لـ»حل الدولتين»، وتبنى هذا الهدف باعتباره الحل الذى يضمن استعادة الاستقرار للمنطقة، وفى الوقت نفسه يقدم ضمانات الأمن لطرفى الصراع وللدول صاحبة المصلحة فى الإقليم والعالم. يكتسب هذا المنحى العربى جديته، كونه مسلحا بقرارات الشرعية الدولية من جهة فضلا عن استعادته لمجمل المشهد الفلسطينى الإسرائيلى إلى طريق التسوية، الذى تعثر قبل الوصول إلى أوضاع وخطوط يمكن وصفها بالاستقرار الآمن.
تلك الرؤية العربية؛ تدرك أن هناك ثمنا باهظا يجرى سداده خلال أشهر الحرب من ضحايا (40 ألف ضحية، 100 ألف مصاب) دفعوا فاتورة الدم، إضافة إلى التدمير الذى طال كافة مناحى الحياة المعيشية للمواطنين الفلسطينيين، تقف اليوم فى مواجهة أخطر انحراف متعمد يجرى دفع المشهد إليه. يمكن رصد بداية هذا الانحراف منذ العملية الغامضة التى وقعت فى «مجدل شمس» بالجولان السورى المحتل، فى توقيت كان العالم كله يتابع نتائج اجتماعات «جولة روما» للوساطة التى كادت تصل إلى وقف لإطلاق النار فى غزة، وبدء الهدنة الممتدة التى يصحبها صفقة لتبادل الأسرى والمحتجزين. أتبع عملية «مجدل شمس» المختلف عليها حتى اللحظة، فى من قام بها وطبيعة استهدافها لـ»المدنيين الدروز» الخاضعين للاحتلال الإسرائيلى، ثلاثة هجمات نوعية منسقة على النحو الذى يمكنه بسهولة من صناعة مشهد جديد تماما، عما كان عليه الوضع قبل ساعات مما جرى. الأولى اغتيال قائد الجناح العسكرى لحزب الله «فؤاد شكر» فى الضاحية الجنوبية ببيروت، والثانية اغتيال «إسماعيل هنية» فى طهران، والثالثة الهجوم الأمريكى على موقع عسكرى ومخازن رئيسية لـ»الحشد الشعبي» بالعراق. فى ساعات محدودة تلقى بنيامين نيتانياهو «قبلة حياة» كان فى أشد الاحتياج لها، بعد فشل زيارته إلى الولايات المتحدة وخروج قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية لاتهامه علنا، بأنه شخصيا يقوم بإفشال جولات التفاوض بعد إتمام جميع التفاصيل واعتماد كافة الضمانات.
زاوية الانحراف يمكنها أن تتمدد؛ وستجد عشرات المحفزات التى تغذيها طالما ستحقق مصالح الأطراف المعنية بصناعة هذا الانحراف، الذى سيكون أفدح ما فيه تفريغ الدم الفلسطينى من دلالته، وتقزيمه لحد خدمة المشهد الإسرائيلى الإيرانى الذى لم يحسم أمره بعد، فهو لازال يراوح مكانه بين سقف الصراع الذى يمكنه الوصول إليه وقواعد اشتباك مراوغة، يمكنها بدم بارد أن تضع غزة بكل ما جرى فيها كفصل من فصول التصعيد والتهدئة، التى تجرى كل فترة بين حزب الله وألوية الشمال الإسرائيلي.
لمزيد من مقالات خالد عكاشة رابط دائم: