رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

صراعات الشرق الأوسط السائلة

الصراعات الدائرة فى الشرق الأوسط تأخذ أحيانا ملامح سريالية غير متوقعة بسبب التعقيد الشديد للأوضاع فى المنطقة. غرائب الصراعات فى الشرق الأوسط تجسدت قبل أيام فى مشهد دام راح ضحيته اثنا عشر صبيا كانوا يلعبون الكرة فى قرية مجدل شمس عندما سقط عليهم صاروخ أطلقه حزب الله. فوجئ حزب الله بأن ضحايا الصاروخ الذى أطلقه هم من الدروز، فسارع بنفى صلته بالحادث، لكن الرواية التى تلصق التهمة به مازالت الأكثر تصديقا حول العالم.

الضحايا من الدروز، ومجدل شمس قرية تقع فى الجولان السورى المحتل الذى ضمته إسرائيل، دون أن يقر لها بهذا سوى عدد قليل جدا من الدول، أهمها الولايات المتحدة التى اعترفت بإسرائيلية الجولان فى عهد الرئيس دونالد ترامب. الولايات المتحدة تحت إدارة بايدن الديمقراطية قالت إن الجولان مهم لأمن إسرائيل، وأن لإسرائيل الحق فى الرد على العدوان. الحكومة السورية، وهى المالك الشرعى للجولان، اتهمت إسرائيل بالمسئولية عن الحادث.

موقف ومشاعر الدروز فى الجولان المحتل مثل زاوية أخرى من المشهد السريالى. لقد مات المراهقون الدروز بصاروخ حزب الله الموجه ضد المحتل الإسرائيلي. وجه الدروز انتقادهم لحكومة إسرائيل بسبب إخفاقها فى حمايتهم مثلما تحمى بالقبة الحديدية سكان المناطق ذات الأغلبية اليهودية. قبل أقلية من سكان الجولان الهوية الإسرائيلية المعروضة عليهم، فبعد نصف قرن من الاحتلال حدث تغير فى المشاعر والهويات. التزم دروز الجولان الصمت، فتحدثت نيابة عنهم أصوات درزية من داخل الخط الأخضر، أى داخل إسرائيل 1948. الدروز داخل الخط الأخضر هم مواطنون إسرائيليين منذ تأسيس إسرائيل لأول مرة، ويخدمون فى جيشها، وقيادتهم الدينية لها درجة من القبول فى أوساط الدروز السوريين فى الجولان المحتل 1967. باعتبارهم مواطنين إسرائيليون طالب قادة المجتمع الدرزى الدولة الإٍسرائيلية بتوفير الحماية لهم على قدم المساواة مع الإسرائيليين الآخرين. إزاء الموقف المعقد وقع قادة المجتمع الدرزى الكبير فى لبنان فى حيرة بسبب صعوبة التوفيق بين كونهم وطنيين لبنانيين وكونهم دروزا أيضا.

الحكومة الإسرائيلية وجدت فى الحادث فرصة لادعاء أنها دولة لكل مواطنيها، وأنها تتعامل مع كل الإسرائيليين على قدم المساواة، فقامت برد قاس على حزب الله, فيما تدخل الأمريكيون وآخرون لإثناء إسرائيل عن رد قد يجر المنطقة إلى حرب مفتوحة، قد تنتشر من باب المندب إلى بلاد فارس. لو فتحنا عدسة الكاميرا، وبدلا من تركيزها على مجدل شمس الصغيرة، نظرنا إلى الشرق الأوسط الواسع. فسنرى دولا، ونرى أيضا أشباه دول، ودولا أخرى فاشلة تماما. لو دققنا النظر أكثر فسنرى فى المشهد طوائف، وميليشيات، وحدودا بين الدول لا تحظى بالاحترام الكافى، يمكن اجتيازها بسهولة، فيما يسعى كثيرون لتحريكها، أو إلغائها بشكل كامل.

موزاييك الدول والطوائف فى الشرق الأوسط هو الأكثر التهابا بين أقاليم العالم المختلفة، ليس لأن أطراف الصراع فى المنطقة يستخدمون أحدث الترسانات العسكرية، ولكن الأهم من ذلك بسبب السيولة الشديدة السياسية والثقافية والمذهبية التى تسمح للصراع بالانتشار عبر آليات كثيرة متداخلة. فى ظل هذه السيولة يمكن لميليشيا صغيرة مسلحة ببعض البنادق أن تصبح رقما فى صراعات المنطقة، وهو وضع لا يمكن تخيله فى مناطق الصراع والتوتر الأخرى فى العالم.

الصراعات فى أوكرانيا وبحر الصين شديدة الخطورة بسبب القوى الكبرى المتورطة فيهما، لكنها ليست صراعات سائلة يسهل خروجها عن السيطرة. الصراعات فى أوكرانيا وبحر الصين هى صراعات بين دول، لديها أجهزة تحسب بدقة كل خطوة وكل إشارة وكل كلمة. صراعات أوكرانيا والشرق الأقصى محكومة بهيكل محكم من توازنات القوة وتقاليد صنع القرار الاستراتيجى الكفيلة بمنع الصراعات من الانفلات. بعد عامين ونصف العام من الحرب فى أوكرانيا تم حصر الصراع العسكرى فى إقليم الشرق الأوكرانى، فتم تصغير الحرب الأوكرانية من صراع هيمنة إلى صراع حدود. فى الشرق الأقصى، وبعد ثلاثة أرباع القرن من الصراع حول وحدة الصين، مازال الصراع يدور فى مرحلة المناورات والتحالفات، دون قذيفة واحدة، فيما يشهد طرفا الصراع أسرع عملية تنمية اقتصادية وتكنولوجية فى التاريخ. بعد عشرة أشهر تحول هجوم حماس فى السابع من أكتوبر إلى حزمة مترابطة من الصراعات المسلحة، شملت اليمن والبحر الأحمر ولبنان وسوريا والعراق وإيران، وعددا كبيرا من الميليشيات والجماعات غير النظامية، بالإضافة طبعا إلى إسرائيل والأراضى الفلسطينية المحتلة.

صراعات أوكرانيا والشرق الأقصى هى صراعات جدية بين قوى مسلحة لأسنانها، لكنها تجرى فى أقاليم ذات هياكل قوة وقدرات راسخة ومحسوبة بدقة، مزودة بأجهزة تبريد فعالة تبقى حرارة الصراعات تحت مستوى الانتشار. الصراع فى أوكرانيا يتعلق بموقع بلد واحد من عملية الاصطفاف الاستراتيجى بين روسيا والغرب. الشيء نفسه يحدث فى الشرق الأقصى، حيث يدور الصراع حول مصير بلد واحد فقط، تايوان.

صراعات الشرق الأوسط، على العكس من ذلك، هى صراعات تتسم بالسيولة، مفتوحة على احتمالات بالغة السوء، تنتشر فى كامل أنحاء الإقليم، قد تختفى فيها دول، ويعاد ترسيم حدود، وتتبدل ولاءات وهويات السكان، وتتوالد الميليشيات المذهبية والطائفية والقبلية والأيديولوجية؛ لذا لزم الحرص، ولزمت اليقظة، لأن الشرق الأوسط لا يمنح الغافلين فرصة ثانية.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: