رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

المكتبة وعاء الثقافة الدائم

مرت رحلتى مع الكتاب – أى كتاب- بثلاث مراحل الأولى فى الطفولة الباكرة عندما بدأت تعلم القراءة والكتابة وأصبحت مشدودا بالكر والفر بين صفحات الكتب على نحوٍ كان يسمينى فيه أحد أخوالى «دودة الكتب»، وكانت قراءتى فى ذلك الوقت تنصرف لكل فروع المعرفة بلا استثناء ولا تتوقف عند تخصص معين أو فرع بذاته، فكنت أقرأ كل ما يقع تحت يدى حتى ولو كان صحيفة قديمة تم إهمالها فى دولاب ملابس أو درج مكتب، وازداد شغفى بالقراءة وولعى بالاستمتاع بكل ما أراه من مطبوعات، وكان حفظى لأجزاء كبيرة من القرآن الكريم معينًا لى على سلامة النطق وسلاسة اللغة، ولذا عندما التحقت بالمدرسة كنت أقرأ كتب الفصل الدراسى كلها قبل أن يبدأ مستمتعًا بها لا باعتبارها واجبًا على بل أعدها هواية مسلية، كنت أعيش مع أسرتى فى مدينة دمنهور التى أنشأ فيها الملك فؤاد مبنى البلدية الرائع الذى كانت تحتل فيه المكتبة بنفس الاسم مساحة كبيرة منه ملاصقة لمبنى أوبرا دمنهور حاليًا، لذلك انصرفت بشكل دورى ويومى لقضاء ساعات فى أحضان تلك المكتبة الرائعة أقرأ أمهات الكتب العربية للمنفلوطى والعقاد وطه حسين وحبيب جاماتي، فضلاَ عن روائع التراث العربى القديم وروايات توفيق الحكيم ومؤلفات سلامة موسي، بالإضافة إلى قراءة ما كتبه رواد الثقافة العربية من دول الشام الذين لاذوا بمصر موئلاً للحرية وملتقى للأحرار، وإذا كانوا قد قالوا قديمًا إن الحاجة أم الاختراع فإننى كنت أردد دائمًا أن «الحرية هى أم الإبداع»، وقد أصابنى هوس خاص بتاريخ أسرة محمد علي، فمنهم الوالى ومنهم الخديو والسلطان والملك، وانتهت تلك المرحلة بقيام ثورة يوليو 1952وما صاحبها من إجراءات ثقافية أدت إلى تشويه الأسرة العلوية نتيجة الفساد الذى كان سائدًا لدى بعض حكامها، وانخرطت فى الدراسة النظامية وكنت الأول بفضل الله على منطقة البحيرة التعليمية فى الشهادة الإعدادية عام 1959، وفى المرحلة الثانوية أصبحت طالبًا فى مدرسة ثانوية كان مبناها هو مقر كلية الزراعة لجامعة الإسكندرية فى بدايتها، وكان بها مكتبة لا بأس بها يتردد عليها بعض الطلاب وهم قلة للقراءات الحرة التى كانت تزاحمها المقررات الدراسية الكبيرة، دخلت القسم العلمى تخصص فيزياء واشتد غرامى بالقراءة الصيفية حتى حصلت على الجائزة الأولى للمجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب فى أواخر الستينيات عن بحثين مختلفين أحدهما سياسى بعنوان (تاريخ الهاشميين فى الدول العربية) والثانى بعنوان (ذبائح الليل) عن مأساة الفتيات الشريدات نتيجة انهيار الأسر الذى يؤدى إلى السقوط فى دروب الانحراف، وأخذت حينها مكافأة على كل منهما سبعون جنيهًا كاملة، وكان ذلك رقمًا كبيرًا وقتها بالنسبة لشابٍ لم يتجاوز عمره سبعة عشر عامًا، وأصبحت أهتم فى تلك المرحلة بجمع الكتب وحيازتها والتعامل معها كأصدقاء للزمان والمكان، وكنت أستطيع أن أتخيل الصفحة التى تحتوى على معلومة مرت على من خلال التركيز على شكلها ومكانها، وعندما التحقت بالجامعة ذهبت إلى القاهرة للدراسة فى كلية الاقتصاد فتحولت بعض قراءاتى رغم تخصصى فى الاقتصاد والعلوم السياسية إلى دراسة التاريخ الإنسانى والجغرافيا البشرية وتطور الأمم والشعوب وظهور التكتلات السياسية وتاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى أن تخرجت فى الجامعة والتحقت بالعمل الدبلوماسى وكان أول تعيين لى فى مدينة الضباب حينذاك لندن العاصمة الثقافية الكبرى فى التاريخ المعاصر، وأتذكر أنه كان لى ثلاثة أصدقاء ثقافيين نتحدث عن الكتب والقراءة والانتماء الفكرى والعقيدة السياسية، وهم الراحل العظيم حسين أحمد أمين وكان مستشارًا بوزارة الخارجية حينذاك، وكنت أنا «سكرتير ثانى» فى إدارة المعهد الدبلوماسى ومكتب الدكتور بطرس غالي، والثانى كان هو رجل تعلمت منه الكثير وأعنى به المستشار شكرى فؤاد ميخائيل، بالإضافة إلى صديق عزيز كان هو السكرتير الأول د.محمود مرتضى رحمهم الله جميعًا، وكنّا نتباهى بما لدينا من كتب ومؤلفات، وذات يوم دعوتهم لزيارة مكتبتى المتواضعة فى شقتى بمصر الجديدة وحين رآها حسين أمين قال لى بسخريته المعتادة: (إنها تبدو مثل مكتبتى وأنا فى الشهادة التوجيهية أو الثانوية العامة)، وظللت أجمع من الكتب والوثائق والمؤلفات ما ناءت به المساحات المتاحة للكتب فى المنزل فاقتنيت شقة صغيرة حشدت فيها كتبى المتزايدة دون توقف، وفيها مجموعات نادرة لمؤلفات شهيرة فى التاريخين العربى والغربي، لذلك عندما توليت إدارة مكتبة الإسكندرية كنت أقول لنفسى مداعبًا هذه بضاعتنا ردت إلينا، فالكتاب هو الجليس والرفيق وهو صديق العمر، ولذا أهديت مكتبة الإسكندرية جزءًا كبيرًا مما كان لدى من كتب بلغ عشرة آلاف وستمائة كتاب، تسلمتها منى الإدارة المعنية ووضعتها فى مكان مستقل ولائق، ولم يخل الأمر من مجاملة تكريم لواحد ساقته الظروف فى خريف العمر لكى يكون مديرًا لذلك الصرح الثقافى الكبير، ويبقى الكتاب على عرشه لا يسقط أبدًا مع مرور الزمن وتطورات التكنولوجيا وتقدم أدوات المعرفة ومصادر المعلومات.. تحية لمكتبتى الصغيرة فى الطفولة واحترامًا للمكتبة الكبيرة التى تطل على شاطئ المتوسط واحة للفكر والعلم والثقافة وملتقى للفنون والآداب.


لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى

رابط دائم: