رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

مصر على خريطة المدن العالمية

كما لا تتسم موازين القوة العسكرية على المستوى الدولى بالثبات، فإن موازين الثروة والغنى لا تتسم هى الأخرى بالثبات، كنتيجة طبيعية لتغير مصادر الثروة. فى بعض المراحل حدث التباين فى توزيع الثروة بين دول العالم نتيجة اكتفاء دول بالاعتماد على تصدير ما تمتلكه من مواد خام وموارد طبيعية فى صورتها الأولية، بينما امتلكت أخرى قدرات تصنيعية مكنتها من إضافة قيمة مضافة على ما تستورده من هذه المواد الأولية مكنتها من مراكمة الثروة. وفى مرحلة لاحقة تمكنت دول أخرى من تحقيق هذا التراكم فى الثروة نتيجة تطوير المعارف والتكنولوجيات، حيث تراجع الوزن النسبى للمواد الأولية والموارد الطبيعية فى عمليات الإنتاج والتصنيع. حدث هذا التباين أيضا نتيجة قدرة دول عدة على اكتشاف ميزاتها النسبية وتوظيف هذه الميزات، الأمر الذى مكنها من تحقيق مكانة اقتصادية دولية رغم محدودية ما تمتلكه من موارد طبيعية. يصدق ذلك، على سبيل المثال، على دولة مثل سنغافورة، التى استطاعت أن تحقق نقلة اقتصادية نوعية اعتمادا على توظيف موقعها الجغرافى المتميز كنقطة مرور بين أقاليم جغرافية واقتصادية عدة.

هذه الخبرات الدولية تجعل من الصعب القبول بثبات خطوط تقسيم العالم على أساس الثروة والغني؛ فهذه الخطوط لا تتسم بالحتمية ولا تتسم بالجمود على مديات زمنية طويلة. الأمر يعتمد على متغيرات عدة، منها قدرة الدولة على اكتشاف ما تمتلكه من مصادر ومقومات للغنى والثروة، وقدرة القيادة السياسية على اكتشاف هذه المقومات وتفعيلها. هذا هو جوهر ما يحدث فى مصر خلال السنوات الأخيرة.

أحد التحولات المهمة فى هذا الاتجاه هو سعى مصر إلى بناء جيل من المدن ذات الطابع العالمى أو «المدن الدولية» إن جاز التعبير، وعلى رأسها العاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة العلمين الجديدة، اللتان أثارتا جدلا واسعا منذ تدشينهما. ولم ينجح قسم كبير من هذا الجدل فى وضع هذا التوجه الإستراتيجى الجديد فى سياقه الدقيق. ولا يزال كثيرون يميلون إلى تقييم هذا التوجه من خلال طرح العديد من التساؤلات غير الدقيقة فى هذا السياق. من ذلك، على سبيل المثال، هل يمثل بناء هذا النمط من المدن أولوية فى هذه المرحلة؟ وكيف يتم تمويلها؟ وأى شرائح اجتماعية سوف تسكنها؟ وما هو العائد الاقتصادى المتوقع منها؟ وما هى التداعيات الاجتماعية والطبقية لاستحداث هذا النمط من المدن؟ ...إلخ. وينتهى هذا الجدال فى معظمه إلى استنكار هذا التوجه، أو الحكم بعدم جدواه الاقتصادية، بدعوى أن هذه المدن لا تمثل أولوية فى المرحلة الراهنة، أو أنها تمثل عبئا على الاقتصاد المصري، أو عدم وضوح العائد الاقتصادى من ورائها، أو أنها ستعمق الانقسامات الطبقية فى مصر، اعتمادا على أنها ستكون فى متناول شرائح اجتماعية محددة. واقع الأمر إن فهما دقيقا لإستراتيجية التوسع فى هذا النمط من المدن يتطلب أن نضعه فى سياق أوسع وأعمق.

من ناحية، لا يمكن فهم هذه الإستراتيجية بمعزل عن توجه واضح لدى الدولة المصرية لإعادة اكتشاف ميزاتها النسبية وقدراتها التنافسية. الواقع يقول فى هذا الإطار إن مصر تمتلك شواطئ ساحلية على طول حدودها الشمالية والشرقية بإجمالى 2936 كم (بطول 995 كم على البحر المتوسط شمالا، 1941 كم على البحر الأحمر شرقا). من ثم، فإن إقامة عدد من المدن ذات الطابع العالمى على هذه السواحل يمثل مدخلا مهما لتوظيف هذه المقومات المهمة، وتحويلها لمصدر للثروة بدلا من كونها مساحات من الصحراء غير المأهولة.

من ناحية ثانية، فقد بات هذا النمط من المدن مصدرا مهما للدخل القومي، وباتت العديد من المدن الكبرى فى العالم تسهم بنسب متزايدة من الناتج المحلى الإجمالى لدولها، حتى إن بعض التقارير الدولية تُصنِف دول العالم حسب امتلاكها للمدن الكبيرة، وترتيب هذه المدن حسب مؤشرات فرعية عدة؛ منها حصتها من الناتج العالمي. من ذلك، على سبيل المثال، تقرير Oxford Economics Global Cities Index. وفقا لنسخة عام 2024 من التقرير، جاءت 12 مدينة مصرية ضمن أقوى 1000 مدينة فى العالم، اعتمادا على مؤشر مركب شمل: القدرات الاقتصادية، ورأس المال البشري، وجودة الحياة، والبيئة، والحوكمة، لكن كانت أول مدينة مصرية تظهر على المؤشر هى القاهرة التى جاءت فى الترتيب رقم ٣٢٧، ثم الإسكندرية فى الترتيب رقم 595، ثم بورسعيد فى الترتيب رقم 678، وصولا إلى سوهاج التى جاءت فى الترتيب رقم 934. لا شك أن دخول مصر مرحلة المدن ذات الطابع العالمى سيغير من وزنها العالمى على هذا المؤشر، وسيغير وضع مصر على خريطة المدن العالمية، وسيزيد من قدرتها على مراكمة الثروة من خلال هذا المدخل المهم، عبر مزيج اقتصادى داخل هذا النمط من المدن ، يشمل - حسب طبيعة كل مدينة - الاستثمار العقاري، والموانى البحرية، والمناطق الحرة، والمناطق الاستثمارية، بجانب زيادة حصة مصر من سوق السياحة العالمية، التى تشهد بدورها تغيرات جوهرية فى اتجاه تزايد الوزن النسبى لأنماط السياحة غير الثقافية.

من ناحية ثالثة، فإن التحول إلى هذا النمط من المدن مثل تطبيقا لأحد الأهداف والمفاهيم المهمة التى سعت إليها العديد من الخبرات الدولية السابقة، وهو «تصدير العقار»، من خلال تحويل القطاع العقارى المصرى إلى وجهة جاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة. وقد بدأت مصر، من خلال هذا الجيل من المدن، فى تحويل هذا المفهوم إلى واقع فعلي. تحقق ذلك من خلال مشروع رأس الحكمة، والمتوقع أن يجر وراءه مجموعة من المشروعات الأخرى المماثلة. يرتبط بذلك ما تمثله هذه المدن من فرصة مهمة لتوسيع دور القطاع الخاص، وتحوله من التركيز على السوق المحلية إلى استهداف السوق الدولية ، وهو قطاع بات يمتلك نخبة اقتصادية وطنية كبيرة، الأمر الذى يضع القطاع العقارى فى قلب المشروع الوطنى المصري.

إن تقييما لتوجه مصر نحو تطوير هذا النمط من المدن لا يجب اختزاله فى مجموعة التساؤلات السابق الإشارة إليها، ذلك أن مثل هذه التوجهات الإستراتيجية الكبيرة يجب تقييمها وفق معايير إستراتيجية أيضا، تتعلق بسعى الدولة إلى اكتشاف ميزاتها النسبية، وتغيير هيكل اقتصادها الوطنى ومصادر النمو الاقتصادي، وزيادة قدراتها التنافسية الدولية. ومع التسليم بأن هذا النمط من المدن يستهدف شرائح اجتماعية محددة أكثر من غيرها، فإن هذا لا ينتقص من أهميتها؛ فهذا النمط من المدن يستهدف بطبيعته جذب قوى شرائية دولية ومحلية تتناسب مع حجم وطبيعة استثماراتها، وهو ما سينعكس فى التحليل الأخير على حجم الاقتصاد الوطني، وحجم الإيرادات المتحققة التى ستنعكس بدورها على قدرة الدولة والقطاع الخاص على توجيه المزيد من الاستثمارات لباقى القطاعات والخدمات العامة.

هكذا، يمكن فهم التوجه نحو إنشاء هذا النمط من المدن الدولية فى مصر تحت عنوان كبير هو تغيير وجه الاقتصاد المصري، وإعادة بناء مصادر متنوعة وجديدة للنمو الاقتصادي، واستكشاف الميزات النسبية للدولة المصرية بشكل يسهم فى تراكم الثروة.

 

 

بات هذا النمط من المدن مصدرا مهما للدخل القومي، وباتت العديد من المدن الكبرى فى العالم تسهم بنسب متزايدة من الناتج المحلى الإجمالى لدولها، حتى إن بعض التقارير الدولية تُصنِف دول العالم حسب امتلاكها للمدن الكبيرة

[email protected]
لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات

رابط دائم: