مرت علينا هذا الأسبوع ذكرى ثورة يوليو 1952. يصعب تجاهل ذكرى ثورة لم يحدث فى مصر ما هو أهم وأكثر تأثيرا منها، منذ وقعت قبل أكثر من سبعين عاما. نعرف متى بدأت ثورة يوليو، ولكننا لا نعرف متى انتهت. يرى الناصريون أن الثورة انتهت بوفاة الزعيم جمال عبدالناصر فى سبتمبر 1970. يرى الليبراليون أن ثورة يوليو مازالت مستمرة طالما ظل النظام السياسى الذى أرست قواعده قائما. دارسو النظم السياسية يرون الأمور بطريقة أقل تأثرا بالأيديولوجيا، وفى رأيهم فإن نظما سياسية عدة تعاقبت على مصر منذ عام 1952، فنظام السادات ليس هو نفسه نظام مبارك أو ناصر. صحيح أن بين النظم التى تعاقبت منذ يوليو 1952 شبها، إلا أن هذا يرجع إلى خصائص لصيقة بالبيئة الاجتماعية والثقافية المصرية.
أطلقت ثورة يوليو وعدا، وأحدثت تغييرا، وحققت إنجازا، وعلى هذه المستويات الثلاثة يمكن تقييم يوليو. تجسد وعد ثورة يوليو فى الأهداف الستة الشهيرة التى تم بلورتها وإعلانها بعد قيام الثورة بأربع سنوات. لا أعلم إن كنا مازلنا ندرس أهداف الثورة الستة لتلاميذ المدارس، وهى التى كان جيلنا يحفظها عن ظهر قلب. القضاء على الاستعمار والإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، وبناء جيش وطنى قوى وعدالة اجتماعية وديمقراطية سليمة. أهداف منطقية يصعب الخلاف عليها، وإن كانت طريقة تحقيقها لا تقل عنها أهمية، ناهيك عن أن الثورة حققت بعضها وأهملت البعض الآخر.
لاحظ أن الثورة لم تضع تحديث الثقافة الوطنية أو إصلاح الخطاب الدينى بين أهدافها، الأرجح لأن الثقافة الوطنية والخطاب الدينى وقتها كانا بخير. هذا فرق مهم بين مصر الآن وما كانت عليه قبل الثورة.
لاحظ أيضا أن الثورة لم تضع التنمية الاقتصادية بين أهدافها الستة. ربما ظن الثوار أن التنمية الاقتصادية ستتحقق من تلقاء نفسها عبر إجراءات بسيطة تبنى مصنعا هنا، وتؤمم بنكا هناك. هل هذا هو السبب الذى أبقانا فى حالة تواضع اقتصادى بينما حقق أقراننا الآسيويون، الذين بدأوا المشوار معنا، قفزات ناجحة إلى عوالم الاستثمار والصناعة والطفرة التصديرية والتكنولوجيا والرفاهية؟
غابت التنمية الاقتصادية عن أهداف الثورة، لكن العدالة الاجتماعية لم تغب عنها. لم يهتم الثوار بإنتاج الثروة بقدر اهتمامهم بتوزيعها. العدالة الاجتماعية مصطلح مطاط يحتمل معانى كثيرة. تقريب الفوارق بين الطبقات كان هو المعنى الذى اختارته الثورة للعدالة الاجتماعية. وضع حد أقصى لملكية الأرض الزراعية، وتأميم البنوك والشركات الصناعية والتجارية؛ إجراءات هبطت بالطبقات العليا. توزيع الأرض على فقراء الفلاحين ورفع الأجور وإتاحة التعليم المجانى والوظيفة المضمونة؛ إجراءات ارتفعت بمستوى الطبقات الفقيرة، فاقتربت الفوارق بين الطبقات.
عدة مشكلات واجهت نموذج يوليو فى تحقيق العدالة الاجتماعية. لقد تم القضاء على الطبقات العليا القديمة، لكن مع الهجرة لبلاد النفط وتغير السياسات الاقتصادية ظهرت طبقات عليا جديدة، واتسعت الفجوة مرة أخرى بين الطبقات. لم تعد إجراءات الارتفاع بمستوى الفقراء قادرة على تقريبهم من الأثرياء، وتحولت الإجراءات التى تم تصميمها لتقريب الفوارق بين الطبقات إلى ضرورات للحفاظ على الاستقرار الاجتماعى والسياسى، بعد أن تقلصت إجراءات تحقيق العدالة الاجتماعية إلى إجراءات للحماية الاجتماعية.
التنمية الاقتصادية الفعالة هى الطريق المضمون لتحقيق عدالة اجتماعية حقيقية. فى غياب تنمية اقتصادية حقيقية يتعذر مواصلة الاستمرار فى تطبيق سياسات للعدالة الاجتماعية، تتحول بمرور الوقت إلى استحقاقات منفصلة عن أهدافها، وإلى عبء يثقل كاهل الموارد العامة المحدودة.
تخفيف حدة الفقر هو أحد أهم إنجازات يوليو. قبل الثورة بعقد من الزمان طالب الأب هنرى عيروط، الأب اليسوعى الذى كرس حياته لدراسة حياة الفلاح المصرى، فكتب واحدا من أهم الكتب عن الريف المصرى، برفع مستوى معيشة الفلاح المصرى فوق مستوى معيشة حيوانات الريف. طالب الأب عيروط بأن يكون الحد الأدنى لأجر الفلاح المصرى خمسة قروش يوميا. وقت أن كانت يومية الفلاح لا تزيد على 3.5 قرش، بينما كان يتم استئجار الحمار بأربعة قروش فى اليوم.
لقد أصبحنا بعيدين جدا عن حال كان فيه هذا المستوى من الظلم الاجتماعى يبدو جزءا من نظام طبيعى مقبول. لقد تغيرت نظرة الناس، وتغير فهمهم للنظام الطبيعى المقبول، والفضل فى ذلك يرجع إلى ثورة يوليو.
لم تكن إجراءات يوليو كافية لتحقيق تنمية اقتصادية، لكنها أحدثت تغييرا اجتماعيا كبيرا، وسجل يوليو فى هذا المجال فيه قدر كبير من الاختلاط. انتشر التعليم فامتلكت مصر أعدادا كبيرة من كوادر علمية وإدارية وتقنية. تم حشد الآلاف فى مدارس وجامعات محدودة الإمكانات فتراجع مستوى الخريجين. تم القضاء على طبقة المستثمرين الرأسماليين المولودة حديثا، والتى قادت النمو الصناعى والتنمية الاقتصادية فى بلاد آسيا الناهضة، بينما توسعت طبقة وسطى قوامها ملايين من الخريجين الذين تم توظيفهم فى جهاز إدارى توسع بسرعة. تم القضاء على سلطة طبقات الملاك الكبار، وتعززت سلطة واستقلالية الجهاز الإدارى الهائل الحجم، والمستعصى على الإصلاح.
ربما تكون ثورة يوليو قد انتهت أو لم تنته بعد، لكن المؤكد أنها ثورة لم تكتمل لأنها لم تحقق سوى بعض وعودها. فى كل الأحوال فإن آثار ثورة يوليو مازالت محسوسة فى مجتمعنا، خاصة أن الصيغة التى اقترحتها لمعادلات السلطة والحكم أثبتت أنها أكثر استدامة من صيغ سبقتها.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: