تقف أوروبا الآن على أعتاب تغيير سياسى كاسح، حيث يتأرجح الناخبون فيها من انتماء إلى آخر. لقد عقد العديد من الدول الأوروبية انتخابات عامة يمينية ومتطرفة. وهاهم الناخبون يغيرون المشهد السياسى من خلال التصويت بجراءة واختلاف. لقد أرهقتهم الأوضاع الحالية لأمور كثيرة ويأملون فى التغيير، ليس بالضرورة لأنهم يفضلون المرشحين أو الأحزاب الجدد، بل لأن القادة شاغلى المناصب الحاليين لم يخدموهم بشكل جيد. ستشكل الانتخابات الحالية المشهد السياسى الأوروبى وستنجح فى دفع أوروبا والعالم فى اتجاه مختلف.
فى السنوات الأخيرة ظهرت موجة أوروبية جديدة أيدت اليمين المتطرف. ويطلق المهتمون بالسياسة مصطلح اليمين المتطرف على التيار الأوروبى الذى يتبنى معاداة الأجانب والمهاجرين ويتمسك بالقيم الوطنية وبالهوية المعادية للغير فى اللغة والثقافة. وقد أجرى الهولنديون انتخاباتهم فى العام الماضى، حيث فاز خيرت فيلدرز اليمينى بأغلبية ساحقة، فى حين عززت الانتخابات الإيطالية فى يونيو حزب رئيسة الوزراء جيورجيا ميلونى اليمينى المتطرف، وفى فرنسا أظهر الحزب الوطنى اليمينى المتطرف بقيادة مارين لوبان سيطرة قوية فى الانتخابات الحالية، على الرغم من أنه لم يحقق نتائج جيدة فى الجولة الأخيرة. وفى يونيو أجرى الاتحاد الأوروبى انتخابات فاز حزب الشعب الأوروبى بقيادة أورسولا فون دير لاين بمعظم المقاعد، لكن فاز حزب البديل من أجل ألمانيا اليمينى المتطرف على حزب يسار الوسط الذى يتزعمه المستشار الألمانى أولاف شولتز.
إنها معارضات هائلة وتغييرات جسيمة، والأسباب ذات شقين. ارتفعت معدلات التضخم مع كوفيد إلى مستويات قياسية، وأدى ذلك إلى ارتفاع أسعار الفائدة وأصبح كل شىء أكثر تكلفة. هدأت أسعار الفائدة بعض الشيء، لكن ذلك لا يعنى أن الأسعار ستعود إلى ما كانت عليه قبل الوباء.
كما أن وجهات النظر اليمينية المتطرفة المناهضة للهجرة تسيطر بوجه عام على المنطق الأوروبى اليوم. يسيطر هذا النهج المعادى للأجانب على الناخبين حيث يربطون العنف بالمهاجرين. وبالإضافة إلى ذلك، يخشى العديد منهم أن يتنافس المهاجرون معهم على الحصول على السكن، والوظائف، وأى مزايا أخرى.
ومع ذلك، أظهرت الانتخابات العامة فى المملكة المتحدة مشهدا مختلفا تماما بانتخاب حزب العمال الوسطى وانهزام المحافظين. ألقى الناخبون باللوم على حزب المحافظين فى الفشل الذى حل بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وتدهور الخدمات العامة، ونتيجة لذلك تعرض المحافظون، بقيادة ريشى سوناك لهزيمة كبرى ومعاقبة أكبر، وجاء حزب المحافظين فى المرتبة الثالثة. واليوم، بعد 14 سنة للمحافظين توج حزب العمال بقيادة السير كير ستارمر بالقيادة. لقد صوّت البريطانيون لصالح حزب وسطى بعيدًا عن اليمين المتطرف الذى يحدث فى بلدان أخرى فى أوروبا، لكن الأهم هو تحول العديد من الناخبين المحافظين السابقين إلى حزب الإصلاح، وهو حزب يمينى متطرف. حزب الإصلاح حصل على العديد من المقاعد على حساب المحافظين بقيادة نايجل فاراج، وهو معروف بسياسته المناهضة للهجرة والمؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى. حزب الإصلاح قوة انتخابية يمكن أن تصبح منافسًا أكثر جدية فى الانتخابات المستقبلية.
وفى فرنسا كانت النتيجة النهائية أكثر إثارة للحيرة. ولم تترك الانتخابات أى فصيل قريب من الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة، الأمر الذى سيؤدى إلى جمود سياسى وعدم تمكن الحكومة من أداء واجباتها. فى الأصل، حقق الحزب الوطنى اليمينى المتطرف المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان تقدما كبيرا، لكنه انخفض من المركز الأول إلى المركز الثالث فى الجولة الثانية. ومرة أخرى، كانت الأصوات فى فرنسا مدفوعة بالغضب وليس الإيمان بلوبان أو الأحزاب الأخرى، وأراد الناخبون هزيمة ماكرون وليس قيادة لوبان. تستشهد صحيفة الجارديان بكلمات أحد الناخبين: هناك الكثير مما يجب أن نضجر منه مثل التغييرات التى اجراها ماكرون على سن التقاعد وإعانات البطالة، علاوة على ارتفاع أسعار الديزل والكهرباء، ونقص الأطباء، والمحال التجارية المغلقة.. وانعدام الأمن، وبطبيعة الحال، الهجرة مشكلة كبيرة.
بعد أن دعا الرئيس ماكرون إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة شُكل تحالف الجبهة الشعبية الجديدة وفاز فى الانتخابات،ووعدت بإلغاء إصلاحات التقاعد والهجرة التى أقرتها حكومة ماكرون، وإنشاء وكالة إنقاذ للمهاجرين غير الشرعيين وتسهيل طلبات الحصول على التأشيرة. كما وضعت حدودا قصوى على السلع الأساسية لمكافحة أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة ورفع الحد الأدنى للأجور.
إن هذا التحول السياسى الحاد الذى استحوذ على أوروبا لن يؤثر فى خاتمة الأمور على أوروبا فحسب، بل وأيضاً على العالم. سيترتب عليه تغييرات مباشرة فى سياسات الهجرة إلى أوروبا، وكم الدعم الموجه إلى أوكرانيا، ومن ستدعمه أوروبا فى سباق الانتخابات الأمريكية،أو تحديها لبوتين، وما يمكن إنجازه قِبَل أزمة المناخ.
لمزيد من مقالات د. عزة رضوان صدقى رابط دائم: