لا أعتقد أن معرفة التوجهات التى تحكم فكر وتحركات رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نيتانياهو» تجاه القضية الفلسطينية تحتاج إلى اجتهادا كبيرا حيث إن أهم مايميزه تجاه هذا الملف المهم أن مواقفه المتطرفة واضحة، رغم أنه هو الذى وقع اتفاق الخليل فى يناير 1997 الذى أعاد انتشار إسرائيل فى المدينة ونقل بعض صلاحياتها إلى السلطة الفلسطينية، كما أنه هو الذى أيد فكرة حل الدولتين خلال الخطاب الشهير الذى ألقاه فى جامعة بار إيلان فى يونيو 2009. لايمكن اعتبار مثل هذه الخطوات التى اتخذها نيتانياهو وآخرها منذ 15 عاما نوعا من التغيير فى أيديولوجيته بل يجب النظر إليها فى إطار قدرته الفائقة على المناورة واستخدام جميع الأدوات التى يمتلكها لصالحه مهما كانت النتائج، وهو الأمر الذى أتاح له أن يكون أكثر رئيس وزراء فى تاريخ إسرائيل بقاء فى منصبه متفوقا على جيل المؤسسين وعلى رأسهم «بن جوريون».
وحتى لانخوض فى جوانب تاريخية، يمكن القول إن «نيتانياهو» تولى رئاسة الحكومة الحالية منذ ديسمبر 2022 ونجح فى تشكيل ائتلاف حكومى قوى يتمتع بأغلبية 64 مقعدا ويمكن أن يستمر حتى 2026 إن لم تحدث متغيرات داخلية قوية تطيح بالائتلاف، ولا ننسى أنه لم يعبأ بالمظاهرات التى اندلعت احتجاجا على مشروع الإصلاحات القضائية الذى اعتبره الإسرائيليون خروجا على الديمقراطية.
ثم جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة التى انطلقت فى السابع من أكتوبر 2023 والتى أثبتت مدى ضعف الإجراءات الأمنية الإسرائيلية فى حماية منطقة «غلاف غزة» الموازية للقطاع، بالإضافة إلى ماوضح من عدم قدرة الجيش الإسرائيلى حتى الآن على حسم الحرب أو تحقيق كل الأهداف التى حددها «نيتانياهو» منذ بدء العمليات، وهنا يمكن اعتبار الفترة منذ بدء الحرب بمثابة مرحلة جديدة فى تأجيج صراع «نيتانياهو» على المستوى الداخلى.
ورغم حجم المظاهرات المتتالية التى تشهدها الساحة الإسرائيلية منذ عدة أشهر للضغط على «نيتانياهو» للموافقة على هدنة ثانية تؤدى إلى الإفراج عن الإسرائيليين المختطفين لدى حماس وفصائل المقاومة، فإنه لايزال قادرا على التصدى لضغوط الرأى العام الذى عكست آخر الاستطلاعات تضاؤل شعبيته كرئيس للوزراء وكذا شعبية حزب الليكود الذى يترأسه. ومن الملاحظ أن حجم المعارضة التى يواجهها «نيتانياهو» لم تقتصر فقط على قطاعات كبيرة من الشارع الإسرائيلى أو حتى على المستويين الإقليمى والدولى بما فى ذلك قرارات محكمة العدل الدولية، بل إن الأمر أصبح أكثر عمقا بالمعارضة الواضحة لمواقفه من جانب أهم قيادات المؤسستين العسكرية والأمنية، وكذا مواقف المعارضة برئاسة «لابيد»، بل إن بعض الأحزاب الدينية المؤتلفة معه مثل «شاس» بدأت تطالبه بالموافقة على الصفقة.
ورغم هذه المواقف فلايزال «نيتانياهو» يرفض الموافقة على المقترحات التى تحمل اسم الرئيس «بايدن» رغم أنها فى جوهرها ماهى إلا مقترحات «نيتانياهو» نفسه، والأمر الغريب أنه يتعامل معها وكأنها مقترحات مضادة لمواقفه ومن ثم بدأ يدخل بعض الشروط التعجيزية عليها الأمر الذى أصبح يشكل عقبة أمام التوصل إلى هدنة جديدة.
من الواضح تماما أن الأولوية التى يركز عليها «نيتانياهو» تتمثل فى الإبقاء على ائتلافه الحالى الذى لايزال متماسكا وقادرا على إفشال أى مشروعات تطرح فى الكنيست لإسقاط الحكومة ضاربا بعرض الحائط جميع المطالب الداخلية والخارجية بإنجاز صفقة تعيد المختطفين الإسرائيليين، ثم نجح «نيتانياهو» يوم 18/7 فى تمرير قرار فى الكنيست برفض إقامة الدولة الفلسطينية بأغلبية كبيرة بما فيهم «حزب جانتس» (الذى يراه البعض معتدلا)، وهو ما يضيف عنصر قوة إلى مواقف «نيتانياهو» من منطلق أنه بهذه الخطوة يؤكد للعالم أن هناك موقفا إسرائيليا موحدا ضد إقامة الدولة الفلسطينية بدعوى أنها تهدد الأمن والوجود الإسرائيلى.
ومن المواقف التى سوف تدعم موقف «نيتانياهو» خطابه المرتقب أمام الكونجرس الأمريكى بمجلسيه فى الرابع والعشرين من الشهر الحالى بناء على دعوة موجهة إليه، وفى رأيى أيا كانت طبيعة هذه الدعوة وملابساتها فإن مثل هذه الخطوة تؤكد مدى عمق العلاقات الإستراتيجية بين الدولتين، وأن أى ضغوط تمارسها عليه واشنطن بما يتعارض مع مواقفه فلن يتجاوب معها، وفى رأيى أيضا أن «نيتانياهو» يراهن بقوة على عودة الرئيس «ترامب» للحكم من أجل إحياء صفقة القرن.
سوف يحرص «نيتانياهو» على أن يكون خطاب الكونجرس ولقاؤه المحتمل مع «بايدن» رسالة واضحة وموجهة إلى الولايات المتحدة فى عقر دارها وباعتبارها أكبر دولة داعمة لإسرائيل بأن الدولة اليهودية تتعرض إلى تهديد وجودى غير مسبوق من إيران ووكلائها فى المنطقة خاصة حماس وحزب الله، الأمر الذى يفرض على واشنطن أن تستمر فى دعمها المطلق لإسرائيل وألا تمارس عليها أى ضغوط تتعارض مع مقتضيات أمنها وتحديدا مبدأ حل الدولتين الذى تتبناه الإدارة الحالية.
وارتباطا بذلك سوف ينتهج «نيتانياهو» أسلوب التسويف لعدم إنجاز الهدنة حتى ينتهى من زيارته لواشنطن التى يهدف إلى أن يحقق خلالها أربع نتائج رئيسية، الأولى الحصول على مزيد من الدعم العسكرى والسياسى والاقتصادى بما يتيح له إبقاء الائتلاف، والثانية ألا تفرض واشنطن عليه أي حلول لا يرتضيها حتى يحقق أهدافه من الحرب والقضاء على حماس، والثالثة أن يكون لإسرائيل الكلمة الفصل فى طبيعة اليوم التالى للحرب حتى لا تصبح غزة مصدرا لتهديد إسرائيل فى المستقبل، والرابعة تأكيد أنه لا مكان لدولة فلسطينية بجوار إسرائيل مستقبلا.
وفى النهاية علينا أن نتابع خلال الأيام المقبلة كيف سيقفز «نيتانياهو» على موجات الضغوط الداخلية المتصاعدة لإنجاز الصفقة قبل توجهه إلى واشنطن والتى نجح فى مواجهتها حتى الآن، وكيف سيناور فى قضية تجنيد «الحريديم» التى دخلت حيز التنفيذ ومازالت تهدد الإئتلاف أهم عناصر بقائه.
لمزيد من مقالات لواء محمد إبراهيم الدويرى رابط دائم: