عندما قرر الانسحاب من المشهد، التقيته للمرة الأخيرة فى القاهرة، بعد ان كنّا نلتقى بشكل شبه شهرى لسنوات، حيث كان ملء السمع والبصر، ولم لا وهو فاروق القدومى (أبو اللطف) رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والرجل الثانى بعد ياسر عرفات، يومها كان حزينا وغاضبا، وقال: ماذا فعلوا بعد عشرين عاما من مفاوضات أوسلو، وبادر بالرد «ألم أقل لك منذ اليوم الأول ان التفاوض من جماعتنا، مع إسرائيل نيتانياهو وإيهود باراك وشارون وغيرهم من أبالسة الكذب مجرد وهم، لن يعطوهم شيئا وسيجعلونهم يفوتوا فى الباب الدوار حتى لو استغرق الأمر مائة عام.
نفس القول داهمنى حتى باتت لدى قناعة، بأن الإسرائيليين هم المخادع الأول فى العالم أيا كان الجالس على رأس حكومة تل أبيب فكلهم كذابون مراوغون، هكذا أبلغنى وليد المعلم وزير الخارجية السورى السابق قبل أن يرحل ويغادر عالمنا، عندما التقيته فى القاهرة قبل أشهر من الربيع العربى 2011، والتى كانت خريفا عربيا، حيث أجريت معه حوارا صحفيا تناول خطأ الرئيس حافظ الأسد، عندما أضاع فرصة المفاوضات والسلام مع الإسرائيليين فى شبرد ستاون فى الولايات المتحدة، وكانت تربطنا صداقة مميزة يومها رد المعلم "ومن قال إن اليهود سيعطوننا أرضنا فى الجولان، ويوقعون سلاما حتى لو باردا معنا، نحن من اليوم الأول كشفنا خديعتهم، ولذا قررنا ان نعلمهم العوم من جديد".
تذكرت كل ذلك وجال بخاطرى، وأنا أتابع فصول الكذب التى لجأ لها نيتانياهو خلال الأيام الماضية، بأنه لن ينسحب من قطاع غزة ولن ينهى الحرب هناك، حتى لو توصل مع حماس بفضل جهود الوسطاء وفى القلب منهم الوسيط المصرى، لاتفاق الهدن الثلاث، وما زاد الكذب أكثر توحشا وقولا انه سيبقى الاحتلال فى معبر رفح وممر فيلادلفى، سعيا للتنصل من قبول وفده المفاوض قبلها بأيام، الانسحاب الإسرائيلى من تلك المنطقتين، بل ومن غزة بالكامل مع نهاية تطبيق المرحلة الثالثة من اتفاق الهدن، وحسنا فعلت القاهرة عندما ردت فى الحال، بانه لا توجد مفاوضات من الأساس حول رفح وممر فيلادلفى، مؤكدة أنها أكاذيب لبعض الأطراف بإسرائيل تحاول التغطية على الفشل الإسرائيلى فى غزة ببث تلك الشائعات، وفى تقديرى ان تلك كانت رسالة سياسية مصرية رادعة لأهداف إسرائيلية خبيثة باننا يمكن ان ننسحب من رفح وممر صلاح الدين ونسير فى صفقة الهدن الثلاث، شرط عمل ترتيبات خاصة تطالب بها تل أبيب على الحدود المصرية مع قطاع غزة، وهذا ما كان يهدف له نيتانياهو الذى تفوق على جرائم عتاة الإجرام فى العالم فى القرنين الماضيين، وكل ذلك إرضاء لليمين المتطرف فى حكومته بن غفير وسموتريتش، فى المقابل يعلم يقينا ان مصر لن تقبل تلك الترهات الإسرائيلية ولاتتعاطى مع مثل تلك السخافات، فالجانب المصرى لم ولن يساوم يوما على أمنه القومى أيا كانت الذرائع.
ناهيك عن حجة المنطق وقوة الفعل المصرى فى نسف كل أكاذيب الشر الإسرائيلى، وفضحه طيلة السنوات الماضية بجملة من المواقف والأفعال المصرية، مثل أكاذيب تهريب الأسلحة عبر الأنفاق من الأراضى المصرية إلى غزة، تلك الفرية المفضوحة من الأساس، حيث ان الجانب المصرى هو من سارع منذ 2014 مع تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى وحتى عام 2016، بنسف كل الأنفاق على الحدود المصرية مع غزة، وتم هدم أكثر من 1500 نفق وتسويتها بالأرض، وبناء حاجز خرسانى بمسافة فاصلة عميقة مع غزة، بعد الأذى الكبير الذى أصاب الدولة المصرية نتاج تهريب الأسلحة من غزة وإسرائيل للجماعات الإرهابية فى سيناء، التى أقدمت على ارتكاب عدة حوادث إرهابية وحشية، وتم ذلك فى ظل إستراتيجية محددة لاقتلاع شوكة الإرهاب نهائيا من سيناء ومن كل مصر، عبر العملية الشاملة فى سيناء 2018 ، والتى قدمت خلالها قواتنا المسلحة وشرطتنا الباسلة تضحيات جساما وفواتير وأثمانا غالية من حياة رجالهما البواسل، ناهيك عن رفض القاهرة أى كلام ممجوج من نيتانياهو وحملة الأكاذيب فى تل أبيب خاصة أكذوبة تهريب الأسلحة لقطاع غزة، فمصر لا علاقة لها على الإطلاق بهذا الملف، حيث إن الحقيقة الساطعة أن تهريب الأسلحة وغيرها من مواد التصنيع يصل لغزة وحماس من داخل إسرائيل نفسها، ومن قوات الجيش الإسرائيلى عبر المرتزقة بداخله الذين يبيعون ويهربون تلك الأسلحة من مستودعات جيش الاحتلال مقابل دولارات معدودة، وهذا ما أكدته التحقيقات العسكرية فى تل أبيب وكشفه وفضحه الإعلام العبرى نفسه.
بحسابات الواقع وتراكم التجربة مع حكومة نيتانياهو، وسطوع آلة الكذب والخداع الإسرائيلى، ستواجه صفقة الهدن وتبادل الأسرى والسجناء الحالية بين حماس وإسرائيل، إشكاليات وعقبات جمة، وستظل تدور فى فلك لعبة الباب الدوار، فمن الصعوبة أن تمر وتنفذ، وفى تقديرى بعد كل هذا الجهد البارع الذى بذله المفاوض المصرى والمقاربات التى طرحها وقدمها لإنقاذ الصفقة بالتعاون مع الوسيطين القطرى والأمريكى، لم يعد يتبقى سوى أمل وحيد وهو الضغط والحراك الأمريكى، لتركيع نيتانياهو للقبول بالصفقة قبل سفره إلى واشنطن لإلقاء خطابه فى الكونجرس ولقاء بايدن، فإما الضغط الأمريكى بجدية هذه المرة، وقطع الطريق على قاتل إسرائيل الأول والأخطر - نيتانياهو - وأما لا صفقة غدا ولا بعد غد وربما لأعوام قادمة.
لمزيد من مقالات أشرف العشرى رابط دائم: