لم تخل السنوات العشر الماضية من نقد وهجوم غير موضوعى على الدولة المصرية بدعوى تحجيم دور القطاع الخاص والانحياز لدور أوسع للدولة من خلال الاستثمارات العامة. وذهبت بعض هذه الدعاوى إلى أن هذا التوجه هو جزء من توجه أشمل يتعلق بطبيعة نظام ما بعد ثورة يونيو 2013، على المستويين الاقتصادى والسياسي.
لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن كل هذه الدعاوى تفتقر إلى سند أو قراءة موضوعية، فقد اتجهت الدولة المصرية عمليا خلال السنوات الأخيرة إلى تسريع عملية توسيع وتمكين أكبر للقطاع الخاص، ليضطلع بدوره الطبيعى داخل الاقتصاد المصرى وداخل عملية التنمية. وتم التعبير عن هذا التوجه من خلال عدد من الإجراءات، كان أبرزها وأهمها إصدار وثيقة رسمية معلنة، هى «وثيقة سياسة ملكية الدولة»، التى صدرت نسختها الأولية عن مجلس الوزراء فى مارس 2022، ثم بشكل نهائى فى ديسمبر من العام نفسه، بعد حوار مجتمعي، لتعبر عن توجه استراتيجى لدى الدولة المصرية بتوسيع حجم ودور القطاع الخاص، ولتمثل أيضا أساسا لحوكمة هذا التوجه.
صدور هذه الوثيقة المهمة لم يكن هو المؤشر الوحيد على هذا التوجه الاستراتيجي. لكننا يجب أن نفهم طبيعة الدور الذى لعبته الدولة فى عملية التنمية خلال العقد المنصرم، وأن نضع هذا الدور فى سياقه الدقيق. لقد ورثت الدولة المصرية حالة من الفوضى نتيجة التحولات السياسية والأمنية خلال الفترة (2011-2013)، تبعها بدء موجة خطيرة من الإرهاب، تراجع على أثرها الوزن النسبى لقضية التنمية كأولوية، سواء لدى الفاعلين السياسيين أو القطاع الخاص. فى مثل هذه البيئة الأمنية الهشة كان من الصعب المراهنة على القطاع الخاص للقيام بدور فاعل فى عملية التنمية، ومن ثم فإن إحجام الدولة عن البدء فى تدشين عملية التنمية كان يعنى تأجيلها لبضع سنوات. الدولة وحدها فقط هى التى امتلكت القدرة على العمل فى ظل هذه البيئة الأمنية الهشة، والقدرة على تحمل التكاليف الاقتصادية والسياسية والأمنية. يصدق ذلك أيضا على المستثمر الأجنبى الذى يحجم بطبيعته عن الاستثمار فى البيئات الأمنية الهشة والتى تحمل مخاطر كبيرة، فضلا عما اتسمت به حركة الاستثمارات الأجنبية خلال العقود الأخيرة والتى مالت إلى التركز فى أقاليمها المباشرة من خلال ما عُرف بظاهرة أقلمة regionalization التجارة والاستثمار.
من ناحية ثانية، فإن حجم وطبيعة الاستثمارات العامة المنفذة فى مصر، خلال العقد الأخير لم تتناسب مع ثقافة وتقاليد القطاع الخاص. فقد اتسمت هذه الاستثمارات بالتركيز على ما يمكن وصفه بالسلع والخدمات ذات المنفعة العامة، والتى تتسم بالإنفاق الضخم، وضعف العلاقة المباشرة بين حجم الإنفاق وحجم العائدات، فضلا عن المدى الزمنى البعيد نسبيا لبدء تدفق هذه العائدات، وهى مجالات غير جاذبة بطبيعتها للقطاع الخاص. وحتى بعض الحالات التى بدت وكأنها تخرج من مجال السلع العامة، فقد اكتسبت وضعا خاصا؛ كارتباطها -على سبيل المثال- بحماية الأمن الغذائي، أو مواجهة الاضطرابات الجارية فى الأسواق العالمية.

ولم تكن مصر استثناء فى الخبرات الدولية فى هذا المجال، فقد اعتمدت العديد من الخبرات التنموية الدولية، خارج الخبرات الأوروبية، على دور محورى للدولة فى عملية التنمية، خاصة فى المراحل الأولي، وعلى نماذج مختلفة من الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص فى تنفيذ المشروعات التنموية الضخمة. واعتمدت العديد من هذه الخبرات على علاقات تكامل قوية بين الدولة وباقى الفاعلين، خاصة القطاع الخاص والجهاز الإداري. مثل هذه الثقافة أو التقاليد لم تتجذر بشكل كاف فى الحالة المصرية، الأمر الذى ساهم فى تطور إدراك سلبى من جانب البعض. كذلك، فإن انطلاق العديد من المؤسسات الدولية من اعتبار الخبرات الغربية هى «النماذج المعيارية» التى يجب أن تحذو حذوها جميع الاقتصادات الناشئة، دفعها إلى نقد الحالة المصرية، وإطلاق أحكام سلبية على العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص فى مصر، فى حين أن الاطلاع على الخبرات الدولية الثرية والمتنوعة فى هذا المجال كان كافيا لإصدار أحكام أكثر موضوعية. ويرتبط بهذه النظرة الموضوعية فهم التجارب التنموية الناشئة على مدى زمنى أوسع؛ إذ لا يمكن اختزال تجربة ما والحكم عليها وتقييمها فى لحظة التأسيس أو على مدى زمنى محدود؛ فالخبرات والتجارب التنموية تتطلب مدى زمنيا معقولا، حتى تتضح ملامحها وسماتها الرئيسية.
ولا يعنى كل ذلك أن الدولة المصرية قد احتكرت النشاط الاقتصادى خلال العقد الأخير، فقد ظل القطاع الخاص شريكا مهما، لكنه ربما لم يكن فى الواجهة فى بعض المشروعات. هذا النمط من الشراكة خلال المرحلة السابقة كان مهما من زاوية صقل خبرة القطاع الخاص، وتعميق ارتباطه بالمشروع التنموي، بما فى ذلك مجال البنية التحتية. وتشير بعض الخبرات الدولية إلى أن اضطلاع الدولة بالمسئولية الكبرى فى تنمية البنية التحتية فى المراحل الأولى من عملية التنمية لا يعنى احتكارها هذه المسئولية على طول الخط. من الأمثلة المهمة فى هذا المجال حالة كوريا الجنوبية، ففى الوقت الذى اضطلعت فيه الدولة بهذا الدور خلال عقدى الستينيات والسبعينيات، لكنها عندما اتجهت إلى تدشين موجة تالية فى تحديث البنية التحتية، خاصة الطرق والمطارات والموانى البحرية والسكك الحديدية، مع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضى كان ذلك من خلال نموذج للشراكة بين الاستثمار العام والاستثمار الخاص، ولم يلغ أى منهما الآخر. بل نشأت علاقة تكامل جديدة بين الطرفين. وأخيرا وليس آخرا، فإنه لا يمكن فهم كثافة الاعتماد على الاستثمارات العامة خلال الفترة الماضية بمعزل عن وجود إرادة قوية لتحقيق طفرة ضرورية فى مجالات مختلفة، لا تشمل فقط البنية التحتية.
القطاع الخاص فى مصر يمتلك نخبة وطنية فى مختلف القطاعات تؤكد صدق المراهنة على دوره خلال المرحلة المقبلة، انطلاقا من وثيقة سياسة ملكية الدولة، ورؤية مصر 2030، وغيرها من الوثائق الاستراتيجية المهمة الأخرى التى صدرت عن الدولة المصرية خلال السنوات الأخيرة. هذه المراهنة تضع مسئوليات كبيرة على القطاع، أولاها العمل فى سياق المشروع الوطنى التنموي، بما يعنيه ذلك من التركيز على القطاعات ذات الأهمية لتغيير طبيعة وهيكل الاقتصاد المصرى خلال مدى زمنى معقول، خاصة قطاعات التصنيع، وتطوير وامتلاك التكنولوجيات الجديدة، والاستثمارات الزراعية والتصنيع الزراعي، واللوجستيات، وغيرها. ثانيتها، حوكمة القطاع، فإذا كانت حوكمة الإنفاق العام والاستثمارات العامة مهمة، فإن حوكمة القطاع الخاص لا تقل أهمية.
لم تكن مصر استثناء فى الخبرات الدولية فى هذا المجال، فقد اعتمدت العديد من الخبرات التنموية الدولية، خارج الخبرات الأوروبية، على دور محورى للدولة فى عملية التنمية، خاصة فى المراحل الأولي، وعلى نماذج مختلفة من الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص فى تنفيذ المشروعات التنموية الضخمة.
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: