نظرة بسيطة، قد لا تستدعى أن تكون شديدة التدقيق، كفيلة لتوضيح ما آلت إليه أحلام قطاع غير صغير من الشباب، كيف بدأت أحلام الأجيال السابقة، وإلى ما انتهت أحلامهم، وتطلعاتهم ومدى طموحاتهم. حديث غير جاذب لهم، فهو لا يمثل قيمة كبيرة، فغالبيتهم ينظرون إلى الماضى نظرة جفاء، و أحيانا استعلاء، خاصة أن الماضى بكل حيواته، لا يقارن بعالم اليوم المتقدم، بشكل، بكل تأكيد لم يتخيله كثير ممن ولدوا فى بداية القرن الماضى. وأيضا سيأتى يوم ما بعد عقد أو عدة، ينظر شباب هذا الوقت للجيل الحالى، نفس النظرة، أو قد تكون أشد جفاء.
هذا التطور المبهر للغاية، سببه التقدم العلمى غير المحدود، الذى وفر للإنسان عددا كبيرا من سبل الرفاهية، فعلى سبيل المثال كان السفر بين الدول يأخذ أياما سواء على الدواب، أو عبر السفن التى صنعها الإنسان للسفر أو للصيد. اليوم نفس المسافة التى كانت تأخذ أياما، تأخذ بضع ساعات، بل حتى وقت قريب، كانت المسافة بين القاهرة وأسوان عبر القطار، تأخذ 13 ساعة، قريبا عبر القطار الكهربائى السريع قد تصل لأربع ساعات. قريبا جدا، سنرى رحلات للقمر بأسعار تستطيع أعداد أكبر مما هى عليه الآن تحمل كلفتها، وبعد فترة أخرى سيتزايد العدد، نظرا للتطور المبهر الذى يشهده هذا المجال، وقد نرى إعلانات، تتحدث عن قضاء وقت ممتع فوق سطح القمر، مع عدد أيام شامله الانتقالات، والإقامة الكاملة، وليس ببعيد أن نكتشف كواكب أخرى، بها حياة تشبه حياة الأرض من هواء نتنفسه، وماء نشربه، ولكن بلا ضوضاء أو تلوث، بعد أن وصلت نسبته فى عدد غير قليل من الدول إلى درجة مفزعة، بل ومميته!
منذ اكتشاف الكهرباء، تغيرت معالم الحياة على وجه الأرض، وتتطور يوما بعد يوم، كذلك مصادر الكهرباء تتطور، وأضحت الطاقة الشمسية، والرياح أهم مصادرها، رغم كلفتهما الكبيرة، إلا أنه قريبا ستكون الكلفة أقل، ذلك من خلال التطوير المستمر والبحث عن كيفية تقليل عناصر إنتاج محطات الطاقة الشمسية، والرياح. كل ذلك بالعلم، والعلم فقط. ومع ذلك أتعجب تعجبا شديدا جدا، من تحول قبلة عدد كبير من الشباب، صوب اتخاذ نجوم بعينها فى مجالات متباينة، منها نجوم حققوا ثروات طائلة فى سنوات تقل عن أصابع اليدين،بسبب ما يقدمونه من فن! مما جعلهم أملا يحتذى به، ونموذجا يتمنى الكثيرون تحقيقه.
بكل تأكيد، الفن لا يبنى مجتمعا، ولا ينشىء جيلا متعلما، ولا يمكن من خلاله تحقيق نشاط اقتصادى يقود أمة مثل مصر، ولكن الفن يمكن أن يكون بناء، فيوجد الحافز الإيجابى للبناء، أو هداما فنرى نماذج غاية فى السوء، والفنان لا يمكن له أن يبنى أستوديو لممارسة فنه، ولكن من يبنى الأستوديو هو المهندس، ومن يجعله مكانا صالحا للإنتاج، هو المهندس. الفنان قد يكون عنصرا مؤثرا فى اتخاذ قرارك، بدخولك كلية الطب، ولكن إذا مرضت سيعالجك الطبيب وليس الفنان.
عبر عقود كثيرة، أنجبت مصر فنانين عظاما، صنعوا فناً مبهراً، أوجد حالة من الثقافة المصرية، التى فرضت نفسها على محيطها، أنشأت لمصر قوة ناعمة فريدة، وأعتقد أنه من الصعب وجود مثيل لها، لأنها نشأت عبر قرن ونيف من العقود، تاريخ كبير ناصع، فيه نجوم متلألئة. لم نشاهد يوما أم كلثوم، وهى نجمة النجوم، والملكة المتوجة بلا مقارن على عرش الأغنية العربية لعقود، وقد يكون حتى اليوم، تخرج على الناس لتتباهى بسيارتها، ومقتنياتها، ولا آخرين، تربعوا بكل حرفية على قلوب الملايين من العرب، فى التلحين والغناء والتمثيل والكتابة. صنعوا تاريخا متميزا، تفخر به الأجيال، جيلا بعد جيل، كان ما يظهرونه الجميل، الحسن، حتى علاقاتهم، كانت تسودها المودة والاحترام المتبادل.
غاية هؤلاء النجوم، كانت الإبداع، ومن ثم التألق، فيأتى النجاح والشهرة، فتتحقق ذات الفنان، ويشعر بالرضا، والحقيقة أننا نفتقد تلك الحالة اليوم، فقد طفت على السطح حفن من مدعى الفن، اتخذوه سبيلا لجنى المال، دون تقديم فن جيد، ولكنهم قدموا نماذج أراها غريبة، جذبت لهم عدداً من الشباب؛ بات هدفهم، ركوب السيارات الفارهة، وما شابه، وبات الأمل الاقتداء بمن شبهت.
منذ فترة ليست قصيرة، تحدث أحد أشهر مدربى كرة القدم فى العالم، قائلاً إن كرة القدم لا تعالج المرضى، ولا تبنى البيوت.. إلخ، ولكنها لعبة جميلة مسلية، تشجع على ممارسة الرياضة من خلال متابعتها. ومن ثم فنجوم كرة القدم، وعديد من الرياضات الشعبية وغيرها، هم نماذج حققت شهرة فاقت الخيال، منذ أن عرف الناس الرياضة، منهم من نحت فى الصخر وصنع لنفسه تاريخا يصعب تكراره، مثل محمد صلاح، ومنهم من لا تتذكره بعد مشاهدته لمرة واحدة.مع ذلك فنجم الرياضة، مثل نجم الفن يصنع وعيا، قد يكون محموداً مثل «صلاح»، وقد يكون العكس، مثل آخرين لا أحبذ ذكرهم، باتوا نماذج سيئة.
ما يؤرقنى، مشاهدة شباب واعد، أمامه المستقبل يفتح له أذرعه على مداها، ليبنى ويطور. ونحلم، ثم نحلم، ثم نسعى لتحقيق الحلم. كل ذلك بالعلم، فهو الذى يبنى الواقع، أما ما دونه فهو يبنى الخيال. ولكنه يجرى وراءه، تاركا العلم. علينا محاصرة الوعى الزائف، قبل أن نٌفاجأ بأزمات كارثية نحن فى غنى عنها، مع تقويمه، مروراً بمرحلة البناء الحقيقى، وصولا لمرحلة الحصاد.
[email protected]لمزيد من مقالات عماد رحيم رابط دائم: