ربما يكون من أفضل نجاحات ثورة 30 يونيو العظيمة التى نحتفل بذكراها الحادية عشرة هذه الأيام، والتى أحدثت هذا التحول الكبير فى مصر، أنها أتاحت السبل امام فتح المجال الثقافى والعلمى والأكاديمى لعدد من الأيقونات المعرفية، لبناء الحاضنة الوطنية المعرفية والفكرية للمواطن المصرى، فى عديد المراكز المختصة بطول الوطن، وفى مجالات شتى تعنى بإعادة بناء الإنسان المصرى وتحصينه ضد أفكار التطرّف وشطحات المكايدة ضد مقومات الوطنية وترسيخها فى أجيال الشباب، لجعلها حائط الصد ضد كل ما يروجه أصحاب الفتن والأكاذيب والأفكار المتطرفة ودعاة هدم الأوطان، أمثال جماعة الإخوان الإرهابية وأخواتها وغيرهم من المارقين فكريا، والداعين إلى إشعال الحرائق الجوالة لهدم وتخريب انطلاقات ونجاحات الدولة المصرية، التى باتت أقرب إلى معجزة استثنائية متفردة فى الألفية الجديدة بين دول الإقليم، رغم صعوبات وتحديات الأوضاع الاقتصادية الطارئة، والتى ستكون إلى زوال قصر الزمن أو طال، خاصة ان مقومات البناء والمعمور والنهوض والتطوير قد غرست، وعندما تتهيأ الظروف ستنطلق محركات التشغيل والتحليق الكبرى لهذا الوطن.
ومن ضمن نماذج مراكز الفكر والمعرفة والبحث والدراسة وتأصيل الفكر الوطنى فى مصر طيلة السنوات الماضية، ونتاج نجاح ثورة 30 يونيو كان المركز المصرى للفكر والدراسات الإستراتيجية، فمنذ تأسيسه كان الأداء والتميز صنوانين للنجاح والتفرد، بأداء رفيع لدراسات جادة وعميقة لكثير من القضايا التى تتعلق بشأن جميع المجالات السياسية والاقتصادية والإستراتيجية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والإنسانية والفكرية والمعرفية، لكل ما يتعلق بنواحى الحياة فى مصر، وبواعث الأخطار التى تحيق بها فى الإقليم، عبر دراسات ونقاشات وكراسات فكرية وبحثية، تقدم خلاصات أفكارها وأطروحاتها لصانع القرار، وكل الجهات المعنية بركائز الأمن القومى المصرى وتحدياته، فضلا عن القضايا والظواهر المحلية التى يمكن ان توضع بين أيدى متخذى القرار لتحقيق وثبات ونجاحات، فى قضايا الحياة اليومية للمواطن فى الأُطر الاقتصادية والاجتماعية، وسبل تجاوز الفكر المعيق للتقدم والنهضة والانطلاقة المشهودة للمواطن والدولة المصرية، وكان النموذج الناجح لأداء المركز المصرى للفكر فى الأيام الماضية، هو هذا المؤتمر الجامع، الذى عقده نهاية الأسبوع الماضى بحضور كوكبة من أهل الفكر الاستراتيجى والدراسات السياسية من المصريين، وحضور مميز للأفارقة الدارسين والدبلوماسيين، اجتمعوا تحت عنوان (صراعات القرن الإفريقى وتداعياتها على الأمن الإقليمى والمصري) وتنبع أهمية هذه القضية اننا فى مصر جزء أساسى من المنظومة الإفريقية، ان لم يكن أحد أبرز المؤسسين لهذه المنظومة، التى تمثل الرافد الأول لركائز السياسة الخارجية والأمن القومى المصرى.
ولقد سعدت بحضور ثلاث جلسات، أقرب إلى العصف الفكرى، حيث قضيت أكثر من عشر ساعات بين نقاش عميق لصراعات تهدد الإقليم، ليس فى المجال الإفريقى فقط وإنما امتد النقاش إلى التحديات الكبرى فى الإقليم، بما فيها حرب غزة وما بعدها، وأدوار القوى الكبرى فى الإقليم، وتعدد اللاعبين لتغذية الصراعات، التى باتت من مهددات الأمن الإقليمى برمته، حيث أطل الدكتور خالد عكاشة المدير العام للمركز المصرى للفكر والدراسات الإستراتيجية فى كلمته الافتتاحية على كل دوائر الحركات والجماعات المارقة التى تهدد الأمن القومى الإفريقى، والتى تعد حجر عثرة، بفعل جرائمها وممارساتها الإرهابية، أمام انطلاق دول القارة ناهيك عن حجم النزاعات بين دول القارة، وما تلعبه بعض الدول فى القارة أصحاب الأجندات الخفية فى إذكائها، مستعرضا الصراعات التى يواجهها القرن الإفريقى، مابين صراعات ذات طبيعة إثنية، وصراعات حدودية، وعلى الموارد، بالإضافة إلى تنامى ظاهرة الأقاليم الانفصالية، وقدم نماذج من الصراع الحالى فى السودان، وما تغذيه إثيوبيا باتفاقها مع أصحاب الصومال لاند، وغيرها من النماذج التى تزيد من خطر اتساع الصراع فى القارة، مع وضع أهداف للمؤتمر بتفكيك وتفسير تلك الصراعات والأزمات المختلفة.
بكل تأكيد ازداد الإعجاب بفحوى ونقاشات جلسة الحوار الأولى التى قادها اللواء محمد إبراهيم الدويرى نائب مدير المركز باحترافية وفهم واسعين لقضايا القارة والإقليم، بما لديه من مرتكزات فكرية عميقة، وتراكم خبرة معرفية وعملية، بكل مسببات وإشكاليات التوتر فى الإقليم الواسع إفريقيا والشرق الأوسط، حيث أدار نقاشا بارعا ومفصلا بشأن تفكيك الصراعات المركبة فى القارة، وقدم «خريطة طريق» أمام صناع القرار فى الإقليم وفى القلب منهم الدولة المصرية لمواجهة جميع أسباب التداعيات وسياسات المواجهة، وكذلك كانت الجلسة الثالثة والأخيرة والتى أدارها الزميل عزت إبراهيم بمشاركة وخلاصة أفكار عدد من الخبراء وأهل الاختصاص، حيث قدم نقاشات عميقة باستفاضة، فكانت ختام هذا المؤتمر المهم سلسلة من التوصيات المهمة، شملت نحو 14 توصية قدمها اللواء محمد الدويرى، حيث كان بعضها توصيات استثنائية جديرة بالأخذ بها من اجل تعميق حضور الدور المصرى فى إفريقيا، واستغلال كل أدوات القوى الناعمة المصرية، بما فيها دور الأزهر والمراكز البحثية المصرية المعنية بالقارة، بجانب أدوات القوى السياسية والدبلوماسية التى عمقها وأعاد حضورها، الرئيس عبدالفتاح السيسى، بعودة الدور والمكانة والتمركز المصرى فى إفريقيا، والتى ترسخت بقوة وفعالية فى رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى عام 2019، وما حققته مصر من نجاح ووثبات كبرى فى الموقع والمكانة فى إفريقيا.
لمزيد من مقالات أشرف العشرى رابط دائم: