رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

ومازالت ثورة 30 يونيو مستمرة

الثورات باعتبارها تحولات وأحداث سياسية كبيرة لا تحقق أهدافها على المدى القصير، وليس من المتوقع دائما أن تسلك مسارا سهلا. ينطبق ذلك على ثورة يونيو 2013، التى لم تكن فقط مشروعا وطنيا مصريا، لكنها حملت أيضا طموحا مصريا كبيرا بشأن حالة إقليم الشرق الأوسط الذى نعيش فيه. تعاملت الثورة مع تحد داخلى فرض نفسه بقوة منذ اليوم الأول للثورة، وهو تحدى الإرهاب. الإرهاب كتحد لم يكن جديدا على الدولة المصرية والمجتمع المصري، لكن موجة الإرهاب هذه المرة اختلفت جوهريا عن الموجات السابقة؛ فعلى العكس من التنظيمات الإرهابية ذات الهيراركية الهرمية الواضحة، وذات العلاقات التنظيمية الواضحة مع غيرها من التنظيمات الإرهابية ومحيطها الداخلى والدولي، اتسم إرهاب ما بعد يونيو 2013 بطبيعة أفقية، استفاد من البيئة الإقليمية والدولية الهشة. والأخطر أن التحدى ارتبط هذه المرة بخطر ضياع جزء غال من الأراضى المصرية، مثل رمزا للتضحية والوطنية المصرية.

هذا التمايز فرض بدوره تمايزا فى استراتيجية المواجهة، فبدلا من مركزية المكون الأمني، كان من الضرورى العمل على تفكيك الأبنية التنظيمية والفكرية والمالية لهذا الإرهاب، وهو ما ساهم فى النهاية فى القضاء على هذا الخطر. وحتى نقف على هذا الإنجاز الكبير لابد أن نطرح سؤالا افتراضيا: ماذا لو نجح تنظيم الإخوان الإرهابى فى تمرير مشروعه؟ أولى الإجابات المطروحة هنا ليست فقط سيطرة التنظيمات الإرهابية على سيناء؛ لابد أن نَمُدْ الخط على استقامته، هل كانت ستظل سيناء فى أيدى هذه التنظيمات؟ بالتأكيد لا؛ لابد من ربط ما يجرى فى غزة اليوم بلحظة 2013، «سيناء 2013» كانت ستكون أيسر بالتأكيد لفرض مشروع التهجير القسرى وتفريغ قطاع غزة وتصفية القضية الفلسطينية. الوعى بخطر الإرهاب والتنظيمات الإرهابية وسعيها الدائم للبحث عن اللحظة المناسبة والفرصة المناسبة للعودة مجددا يعنى أن ثورة يونيو يجب أن تظل مستمرة.

بالتوازى مع مواجهة الإرهاب، سعت الدولة إلى تدشين المشروع التنموى المصري الذى قام على عدد من الركائز المهمة، شملت تحديث البنية التحتية فى مختلف القطاعات، باعتبار ذلك -وفقا للخبرات الدولية السابقة- شرطا رئيسا لجذب الاستثمارات الأجنبية، ولتحقيق النمو الاقتصادى المستدام، وتوفير المناخ الملائم لاضطلاع القطاع الخاص الوطنى بدوره التنموى المهم. شملت هذه الركائز أيضا تسريع عملية الإصلاح الاقتصادى والمالى والتشريعى باعتبار ذلك شرطا رئيسا لخلق «سوق طبيعي» وفق حسابات المستثمر الأجنبى والمؤسسات المالية الدولية. الوصول إلى هذه الأهداف لم يكن سهلا، فقد كان لهذا المسار تكاليفه على المستوى الداخلى بالنسبة لمستويات المعيشة التى تأثرت بمعدلات التضخم الناتجة على عمليات تحرير أسواق الصرف فى عام 2016. لكن هذه التكاليف قد تعمقت مرة أخرى بفعل جائحة «كوفيد- 19»، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وتنامى الصراعات والنزاعات الدولية فى بحر الصين الجنوبى ومنطقة المحيطين الهادى والهندي، وهى الصراعات والأزمات التى تخلق تداعيات سلبية كبيرة على حركة التجارة العالمية، ودرجة استقرار سلاسل الإمداد والتوريد، ثم جاءت العمليات العسكرية الأمريكية- البريطانية الأخيرة فى البحر الأحمر لتخلق ارتباكا فى حركة التجارة والملاحة العالمية عبر هذا المسار البحرى الشديد الأهمية. هذا الواقع الدولى الجديد الذى بدأت ملامحه تتبلور منذ عام 2017 يعنى أن البيئة الدولية ستظل فى الأغلب مصدرا لعدم استقرار الأمن العالمى والاقتصاد العالمي، ولا يوجد أفق محدد لطريقة وتوقيت خروج العالم من هذه الأزمات والصراعات، إن لم يشهد مزيدا من الانحدار والتدهور. هذا الواقع المعقد يفرض علينا الوعى دائما بالمخاطر التى تحيط بالمشروع الوطنى التنموى المصرى، الأمر الذى يعنى أن ثورة يونيو يجب أن تظل مستمرة.

على المستوى الإقليمى مثلت ثورة يونيو ضربة موجعة لمشروع استهدف بالأساس إعادة هندسة الإقليم لمصلحة قوى إقليمية بعينها، اعتمادا على مجموعة من الفاعلين من غير الدولة (التنظيمات الدينية، والسلفية التكفيرية، والميليشيات المسلحة). هذا المشروع حظى أيضا بدعم قوى دولية. نجاح هذا المشروع كان يعنى إعادة هندسة الإقليم. سياسيا، كان تنظيم الإخوان الإرهابى يتجه إلى إعادة بناء الارتباطات والتوجهات الخارجية لمصر، فى اتجاه الارتباط بقوى إقليمية لديها مشروعاتها التاريخية بشأن الإقليم، واعتمدت سياسات وأدوات محددة لتنفيذ هذه المشروعات. هل كانت ستقبل هذه القوى وجود مصر كقوة ندية بجانبها؟ هل كانت ستقبل وجود دولة ذات جيش قوى بجانبها فى الاقليم؟ لم يكن كل ذلك مقبولا بالتأكيد، لكن أخلاقيات وتقاليد «دول التنظيمات» و«دول الميليشيات» كانت ستقبل بالتأكيد التحرك كتابع لهذه القوى، والتصرف كأدوات في سياق تنفيذ هذه المشروعات. لذلك كان من الطبيعى أن يكون هناك رد فعل إقليمى ودولى قوى ضد ثورة يونيو، لأن هؤلاء أدركوا منذ اللحظة الأولى ما يعنيه إزاحة وكيلهم الداخلى.

فى هذا السياق، نستطيع أن نفهم لماذا يمثل مفهوم «الدولة الوطنية» مفهوما مركزيا فى خطاب وممارسات الدولة المصرية منذ ثورة يونيو 2013 حتى اليوم، لأن هدم الدولة الوطنية كمفهوم وكوحدة سياسية رئيسة فى الإقليم كان هو الهدف والشرط الضرورى لتنفيذ هذه المشروعات الإقليمية، لتحل محلها «دولة التنظيم الدينى» أو «دولة الميليشيا المسلحة» أو «الدولة الوكيل» فى أحسن الأحوال. هذه المشروعات الإقليمية لم تنته، ومازالت تجرى على الأرض، ومازال الإقليم ــ وضمنه الدولة المصرية ــ يدفع أثمانا باهظة بسببها. الوقوف فى مواجهة هذه المشروعات تطلب ــ ولايزال ــ جهدا ضخما من الدولة المصرية للحفاظ على التوازنات الإقليمية ولحماية الأمن القومى المصري. لقد نجحت الدولة المصرية منذ يونيو حتى الآن فى حماية أمنها القومي، صحيح أنه لم يتم استخدام القوة العسكرية خارج الحدود المصرية إلا فى حالات محدودة جدا، لكن هذا لم يكن ليتحقق دون عمليات البناء والتحديث المستمرة للقدرات العسكرية والدفاعية المصرية؛ فبينما تفشل دول فى تحقيق أهدافها ومصالحها باستخدام القوة العسكرية، فإن الدولة المصرية نجحت فى ذلك دون استخدام قوتها العسكرية خارج حدودها. ليس من المتوقع أن تتغير ملامح البيئة الإقليمية المحيطة بمصر قريبا، بل الأغلب أنها قد تزداد تعقيدا خلال السنوات المقبلة، بفعل عوامل عدة، منها أنها قد يزداد ارتباطها بالصراع الجارى على قمة النظام العالمى الذى لن يتم حسمه قريبا. وإذا افترضنا أن ثورة يونيو كانت تتعامل -فى أحد أبعادها- مع مشروعات إقليمية، وبيئة إقليمية هشة، فإن الوعى بهذه المخاطر يفرض أن تكون ثورة يونيو مستمرة.

لقد أفرزت مقدمات وتداعيات ثورة يونيو روحا عظيمة داخل المجتمع المصري، وقيادة سياسية تحملت مخاطر الانحياز لطموحات الأمة المصرية فى لحظة يونيو وما بعدها، ومازلنا فى حاجة إلى استمرار هذه الروح للحفاظ على حالة الزخم حول المشروع الوطني، الذى مازال يعمل فى بيئة شديدة الهشاشة على المستويين الإقليمى والدولي.

 

 

الوعى بخطر الإرهاب والتنظيمات الإرهابية وسعيها الدائم للبحث عن اللحظة المناسبة والفرصة المناسبة للعودة مجددا يعنى أن ثورة يونيو يجب أن تظل مستمرة

[email protected]
لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات

رابط دائم: