رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

إشكاليات بناء المؤشرات السياسية الغربية

الظواهر السياسية والاجتماعية بطبيعتها تتسم بدرجة كبيرة من التعقيد وصعوبة القياس الكمى، الأمر الذى دفع المؤسسات الأكاديمية ومراكز البحث فى العديد من الفروع المعرفية إلى اللجوء لبناء المؤشرات كأداة للقياس والتعبير الكمى عن حالة الظواهر، ومتابعة تطورها وسلوكها عبر سلاسل زمنية طويلة نسبيا، الأمر الذى وفر شرطا مهما لإمكانية التنبؤ بالسلوك المستقبلى لهذه الظواهر، وبناء أنماط محددة للعلاقات فيما بينها تحت شروط محددة. وتعاظم فى هذا السياق أهمية بناء ما يُعرف بالمؤشرات المركبة. ويُعرف «المؤشر المركب» بأنه مقياس -عددى أو كمي- مجمع، يضم مجموعة من المؤشرات الفردية التى تعكس جوانب الظاهرة موضوع الاهتمام، حيث يتم دمج مجموعة من المؤشرات المنفصلة، استنادا إلى نموذج إحصائى محدد للحصول على مؤشر مركب، يعبر عن الاتجاه العام المشترك لهذه المؤشرات الفرعية. وما يميز المؤشر المركب عن المؤشر البسيط (متغير أو بعد واحد فى الظاهرة) أن الأول يقوم على المزج/ الدمج بين مجموعة من المؤشرات بهدف الوصول إلى توصيف أدق للظاهرة موضوع الدراسة.

بعض المؤشرات المركبة قد تتضمن عشرة مؤشرات فرعية أو أكثر. من أمثلة هذه المؤشرات «مؤشر الإرهاب العالمي» الذى يصدره معهد الاقتصاديات والسلام (يعمل من داخل أستراليا، وعدد من المكاتب فى نيويورك وبروكسيل وهولندا)، ومؤشر «مدركات الفساد» الذى تصدره «منظمة الشفافية الدولية» (منظمة دولية مقرها برلين)، و»مؤشر الدول الهشة» الذى يصدره معهد السلام (الولايات المتحدة).

بهذا المعنى، فإن المؤشرات ما زالت تقدم خدمة مهمة، لكن هذا لا يعنى بحال من الأحوال أنها تمثل أداة مأمونة بشكل كامل للوصول إلى أهدافها. ما زالت مسألة المؤشرات، خاصة المركبة، تثير العديد من الإشكاليات التى تفرض التعامل معها بحذر شديد. هذه الإشكاليات تبدأ بمنهجية وطريقة تركيب وبناء هذه المؤشرات والمفهوم الرئيسى الحاكم لبنائها، وصولا إلى «الحسابات السياسية» التى قد تقف وراء بناء واستخدام بعض هذه المؤشرات.

بناء المؤشر ليس عملية سهلة، وليس عملية نزيهة أو موضوعية تماما. عدم المنهجية يؤدى إلى نتائج مضللة، كذلك، فإن عدم النزاهة وغياب الموضوعية يؤديان إلى النتائج نفسها. الوصول إلى مؤشر مركب منهجى وموضوعى، ومستقل عن الجهة القائمة عن بناء المؤشر، يحتاج إلى فرق بحثية كبيرة لديها الوعى المنهجى الكافى بطريقة بناء المؤشر المجمع، وطبيعة المؤشرات الفرعية التى يتضمنها، وفهم القواعد المنهجية التى يتم الاعتماد عليها فى بناء المؤشر.

فى هذا السياق، تثار مجموعة من الإشكاليات المنهجية فى عملية بناء المؤشرات. أولها، الإشكاليات ذات الطبيعة النظرية والفنية؛ مثل إمكانية وجود خلل فى المفهوم الإجرائى الذى يستند إليه تعريف المؤشر، وما إذا كان هذا المفهوم، ومن ثم المؤشر/ المقياس، يقوم على فهم شامل لطبيعة الظاهرة موضوع القياس بأبعادها أو مكوناتها المختلفة. ثانيها، قد يكون هناك خلل منهجى فى تحديد الأوزان النسبية للمؤشرات الفرعية التى يتضمنها المؤشر؛ فهل يجب فى هذه الحالة التعامل مع هذه المكونات/ المؤشرات الفرعية بنفس درجة الأهمية؟ فقد تختلف الأهمية النسبية لكل مكون من منطقة جغرافية إلى أخرى، ومن بيئة ثقافية إلى أخرى. هناك مشكلات كبيرة فى طريقة تحديد الأوزان النسبية للمؤشرات الفرعية.


ثالثها، أن المؤشرات لا تمتلك القدرة على التفسير الموضوعى للظواهر والحقائق موضوع الدراسة؛ ذلك أن المؤشرات تعتمد على معادلات وحسابات إحصائية، لكنها لا تقدم فى حد ذاتها تفسيرا دقيقا للظاهرة المستهدفة. لابد من مهارات كافية للباحث تعينه على قراءة المؤشر، وأن يكون واعيا بطبيعة المؤشر وبيئة عمله. هذا يفسر تباين قراءات الباحثين لنفس المؤشر.

رابعها، أن عملية بناء المؤشرات تغفل مسألة تباين البيئات والأنظمة الثقافية والاجتماعية خارج الإطار الغربي. أحد الإشكالات الكبرى أن النسبة الأهم من المؤشرات أسهمت فى بنائها مؤسسات أكاديمية وبحثية غربية، الأمر الذى أوقع هذه المؤسسات فى انحيازات سياسية وأيديولوجية، مقصودة أو غير مقصودة، بدءا من الانطلاق من مفهوم محدد للظاهرة موضوع القياس، وانتهاء بالانحياز للنماذج السياسية والاقتصادية والثقافية والتنموية الغربية، وخبراتها فى التحول والانتقال...إلخ. وأغفلت هذه المؤسسات فى بنائها لهذه المؤشرات الخبرات والبيئات الأخرى خارج الدول الغربية، بما فى ذلك الدول الآسيوية التى قدمت هى الأخرى نماذج وخبرات لا تقل أهمية عن مثيلاتها الغربية. من ذلك، على سبيل المثال، انحياز هذه المؤشرات للخبرة وللمفهوم الغربى الليبرالى للتنمية، الذى اعتبر الديمقراطية ــ بالمعنى والخبرة الغربية ــ شرطا رئيسيا للتنمية، والإيمان بنمط واحد للسياسات التنموية التى تقوم على آليات السوق. وأغفلت هذه المؤشرات أن هناك تجارب تنموية قامت على مفاهيم مركزية أخرى مثل «الدولة التنموية». المؤشرات والمقاييس الغربية الخاصة بالحريات العامة، التى ارتكزت على مفهوم الحقوق والحريات الفردية وأولويتها، أهملت هى الأخرى طبيعة الأنظمة الثقافية غير الغربية، مثل الثقافات الآسيوية التى تضع حقوق الجماعة قبل حقوق الفرد. هذا الإشكال يثير إشكالا أكبر يتعلق بانطلاق المؤشرات الغربية من هدف ضمنى آخر هو السعى إلى تنميط و«قولبة» العالم، وهو واقع لا يرتبط فقط بهيمنة الغرب على عملية بناء المؤشرات، لكنه يرتبط أيضا بموازين القوى القائمة. ويثير ذلك عددا من التداعيات المهمة، منها تحول المؤسسات البحثية والأكاديمية الغربية، ومن ثم العديد من المؤشرات، إلى وسيلة لضمان استمرار هذه الهيمنة الغربية. إن تجاهل التباين فى مستويات التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتباين السياقات التى تعمل فيها الظواهر السياسية والاجتماعية خارج الدول والمجتمعات الغربية المتقدمة لا يخدم الفهم الدقيق لهذه الظواهر وحركتها فى العالم.

يرتبط بهذه الإشكالات المنهجية أيضا خطورة تحول المؤشرات إلى «مسلمات فكرية»؛ ففى العديد من الحالات يتم النظر إلى بعض المؤشرات على أنها مسلمات غير قابلة للنقد، ودون إدراك للسياقات التى تصدر فى إطارها، ما يؤدى إلى استدلالات ونتائج مضللة، أو الربط التعسفى والمغلوط بين المتغيرات، مثل الربط غير الدقيق الذى قام لعقود طويلة ظاهرتى الفقر والإرهاب، والذى ثبت لاحقا عدم وجود هذه العلاقة بالشكل الذى روجت له العديد من المؤسسات ومراكز الفكر، والذى جاء فى النهاية على حساب فعالية سياسات مواجهة ظاهرة الإرهاب، بل ربط ظاهرة الإرهاب بالدول النامية.

هذه الإشكالات وغيرها قد تخلق ظاهرة أخرى وهى استحواذ المؤشرات على مُستخدِميها، أو ولعهم بـ«هاجس الترتيب» Ranking Obsession، حيث يصبح التوافق مع المؤشر هدفا فى حد ذاته، ما يؤدى فى بعض الحالات إلى التأقلم الشكلى الزائف مع المؤشر وعدم القدرة على القراءة الحقيقية للظاهرة. هذا الإشكال ما زال يسيطر على بعض الباحثين ومستخدمى المؤشرات، وهو وجه لنجاح المؤشرات فى عملية التنميط والقولبة.

بجانب هذه الإشكالات المنهجية، هناك حزمة أخرى من الإشكالات المتعلقة بعملية التسييس التى تتعرض لها عملية بناء المؤشرات وطريقة توظيفها، وهو ما يمكن مناقشته لاحقا.

 

 

بناء المؤشر ليس عملية سهلة، وليس عملية نزيهة أو موضوعية تماما. عدم المنهجية يؤدى إلى نتائج مضللة، كذلك، فإن عدم النزاهة وغياب الموضوعية يؤديان إلى النتائج نفسها.

[email protected]
لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات

رابط دائم: