بعض الأزمات الإقليمية والدولية تكتسب خصوصية من زاوية الدور الذى تلعبه فى الكشف عن العديد من الظواهر المهمة. فقد كشفت مجموعة الأزمات التى وقعت خلال العقود الثلاثة الأخيرة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، عن تآكل العديد من الأسس والمبادئ التى قام عليها النظام العالمى الذى تأسس عقب الحرب العالمية الثانية، بدءا من تراجع مفهوم السيادة بمعناه التقليدى وإعادة تعريفه بهدف توسيع حق التدخل الخارجي، وانتهاء بتراجع الوزن النسبى للمنظومة الأممية كإطار لإدارة وتسوية الأزمات الدولية والإقليمية. ينطبق ذلك على أزمة العدوان الإسرائيلى الجارى على قطاع غزة، لكنها كانت الأكثر دلالة فى الكشف عن حجم الخلل فى النظام العالمى وحجم التآكل الذى طال المبادئ الأساسية التى يقوم عليها.
أول ما كشفت عنه الأزمة الراهنة هو التآكل الخطير للأساس الأخلاقى للنظام العالمى. العلاقة بين العلاقات الدولية والقيم والأخلاق هى علاقة جدلية، ففى مقابل نظريات العلاقات الدولية التى دافعت عن الطابع الصراعى للعلاقات الدولية، ومركزية مفاهيم القوة والمصلحة...إلخ، ظلت هناك بعض النظريات التى دافعت عن أهمية القيم والأخلاق فى العلاقات الدولية، بل اعتبارها أحد أشكال ومصادر قوة الدولة. كما ظلت هناك العديد من القيم العليا التى حكمت السياسات الدولية، منها الحق فى تقرير المصير. لكن الأخطر أن أزمة العدوان على قطاع غزة كشفت عن بعد آخر هو التراجع الخطير فى أخلاقية السياسات الدولية، خاصة تجذر حالة ازدواجية المعايير الدولية، والكيل بمكيالين، والتضليل الإعلامي، والسرديات الزائفة، والاعتداء على القانون الدولى والقانون الدولى الإنساني، والاعتداء على حقوق الإنسان، والتطاول على الأمم المتحدة والموظفين الأمميين، وغيرها من الممارسات التى تقوض فى التحليل الأخير الأساس الأخلاقى للنظام العالمى والسياسات الدولية.
يعمق من الآثار السلبية لهذا الاتجاه ارتباطه بالقوة العظمى المهيمنة على قمة النظام العالمى، وعدد من حلفائها، الأمر الذى يسرع من تقويض شروط استقرار هذا النظام. أحد مداخل تأسيس النظام العالمى واستقراره هو وجود قوة عظمى تقبل الجماعة الدولية باضطلاعها بحالة الهيمنة على النظام العالمى، مقابل تولى هذه القوة توفير الخدمات العامة الدولية الأساسية، وعلى رأسها الأمن العالمي، وحماية القانون الدولي، وحرية الملاحة الدولية، وحرية التجارة، وتسهيل فرص النفاذ إلى التمويل الدولي، خاصة خلال فترات الركود الاقتصادي، وغيرها. ويذهب عدد من منظرى العلاقات الدولية إلى أن هناك عاملين رئيسيين وراء اضطلاع الدولة المهيمنة بهذه المسئولية، أولهما «المسئولية الأخلاقية»، وثانيهما أنه لا توجد دولة أخرى بإمكانها تحمل تكاليف توفير هذه الخدمات. ويظل اعتراف وقبول المجتمع الدولى بحالة الهيمنة تلك مرهونا بقدرة هذه القوة العظمى على توفير هذه الخدمات وحمايتها.
أزمة العدوان الإسرائيلى على غزة كشفت عن خللين كبيرين، أولهما عدم قدرة الولايات المتحدة على التصرف كقوة عظمى مسئولة عن حماية أمن إقليم الشرق الأوسط، الذى ما زال أحد الأقاليم شديدة الأهمية والحساسية بالنسبة للأمن العالمى. ثانيهما أنها (الولايات المتحدة) لم تستطع التمييز بين مسئولياتها كقوة عظمى تجاه واحدة من أخطر الأزمات التى مر بها الإقليم، ومسئوليتها كحليف إستراتيجى لإسرائيل.
هذان الخطآن الإستراتيجيان الكبيران يُضافان إلى سلسلة من الأخطاء أو مظاهر الضعف السابقة التى ارتبطت بجائحة كوفيد-١٩، ثم الحرب الروسية- الأوكرانية. ففى الأولى، على سبيل المثال، تم التوسع فى تسييس قضية فنية، الأمر الذى أدى إلى تقويض منظمة الصحة العالمية، التى مثلت وجهة أساسية فى الهجوم الأمريكى على الصين، ما أدى بدوره إلى تقويض فرص التعاون متعدد الأطراف لمواجهة تحد عالمى غير تقليدى. وفى الثانية، تم التوسع فى آلية العقوبات خارج النظام متعدد الأطراف، ما ساهم فى تقويض مبادئ حرية التجارة العالمية.
هذه الأخطاء الإستراتيجية تقوض أيضا فرص استقرار قناعات الفاعلين الدوليين بالحفاظ على حالة الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي، وتتراجع قناعاتهم بأن هذه الهيمنة ما زالت تحقق لهم المكاسب المطلوبة، خاصة فى ظل أهمية الخدمات الدولية التى تضطلع بها القوة العظمى فى النظام العالمي، والتى يمثل استقرارها وصيانتها شرطا أساسيا لاستقرار النظام الاقتصادى العالمي، واستقرار التجارة العالمية، ومن ثم النمو الاقتصادى.
وتأتى خطورة اهتزاز هذه القناعات إذا أخذنا فى الاعتبار أن نمط توزيع القوة فى النظام العالمى فى المرحلة الراهنة قد تغير بشكل كبير، بالمقارنة بمرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، التى اتسمت بوجود فجوة قوة كبيرة بين الولايات المتحدة كقوة عظمى ورثت النظام ثنائى القطبية، والقوى التالية لها مباشرة، الأمر الذى لم يخلق آنذاك أى فرصة للتنازع على مقعد القوة العظمى؛ حيث سلمت القوى التالية بالوضع المهيمن للولايات المتحدة على النظام العالمى. أما الآن، فإن نمط توزيع القوة (الاقتصادية، والعسكرية، والتكنولوجية، والثقافية) بات يتسم بدرجة أكبر من الانتشار داخل العالم، وباتت الفجوة بين الولايات المتحدة والقوة التالية لها أقل جدا عما كانت عليه فى بداية مرحلة الهيمنة الأحادية الأمريكية، الأمر الذى زاد من تكاليف وأعباء الحفاظ على حالة الهيمنة، ومن ثم تزايد تكاليف توفير الخدمات العامة العالمية، ما يؤدى بدوره إلى تراجع حجم العائدات الاقتصادية لحالة الهيمنة.
كذلك، بات عدد القوى الوسطى فى النظام العالمى أكثر مما كان عليه الوضع بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وهى شريحة لا تقل أهمية عن القوة التالية فى النظام العالمي، فهى الأكثر اهتماما باستقرار النظام العالمى والخدمات العالمية الرئيسية، لارتباط تجاربها التنموية باستقرار هذه الخدمات. ومن ثم، فإن تراجع قناعة هذه الدول بجدوى استمرار حالة الهيمنة الراهنة سيؤثر بالتأكيد فى قدرة هذه الهيمنة على الاستمرار، وقد تتجه هذه الفئة الدولية المهمة إلى تحدى هذه الهيمنة. هذا التحدى قد لا يأخذ بالضرورة طابعا عسكريا. كما أن استخدام القوة العسكرية من جانب القوة المهيمنة لن يكون كافيا للحفاظ على حالة الهيمنة. ولا تقتصر مصادر تراجع حالة الهيمنة الأمريكية على تلك المصادر المرتبطة بأدائها على المستوى الدولي، وتراجع قدرتها على توفير الخدمات الدولية، لكنها تشمل كذلك العديد من المشكلات الداخلية التى تنعكس فى التحليل الأخير على قوة وجاذبية نموذجها السياسى والأخلاقى.
انكشاف وتآكل أسس وجدوى حالة الهيمنة الأمريكية لم يرتبط بالتأكيد بأزمة العدوان الإسرائيلى الجارى على غزة وحدها، فقد بدأ هذا التآكل منذ سنوات، لكن الأزمة كانت كاشفة عن عمق هذا الاتجاه، الذى سيتسارع بشكل أكبر ما لم يتم تداركه بشكل سريع، من خلال مراجعة عميقة للأخطاء الأمريكية.
أحد مداخل تأسيس النظام العالمى واستقراره هو وجود قوة عظمى تقبل الجماعة الدولية باضطلاعها بحالة الهيمنة على النظام العالمى مقابل تولى هذه القوة توفير الخدمات العامة الدولية الأساسية، وعلى رأسها الأمن العالمى.
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: