طرح الكاتب الكبير يوسف إدريس تأصيلا لمعضلة فكرية شغلته مدة طويلة واختارها عنوانا لأحد كتبه وهو: فكر الفقر وفقر الفكر, ولكن بعد مرور قرابة 40 عاما على صدوره، لا تزال هذه المعضلة قائمة!.
ففى تقديمه للكتاب الصادر عام 1985، أشار إدريس إلى أن هذه المعضلة الفكرية راودته سنوات عديدة خلال متابعاته لما وصلت له حياة الناس ليكتشف أن المجتمع المصرى حينئذ كان يدور بأفراده فى دائرة مفرغة من الأفكار التى تؤدى بالنهاية لفقر فى الحياة والإنتاج ومن ثم فقر فكرى وهكذا دواليك. ويرى أن: الفقر ليس وضعًا اقتصاديًّا فقط، إنه وضع من أوضاع البشر، وضع عام، يتصرف فيه الإنسان بفقر، ويُفكر بفقر، أفكار تؤدِى إلى فقر أكثر واحتياج للغير أكثر، بمعنى آخر هو مرض يصيب الاقتصاد ويصيب العقول ويصيب الخيال أيضًا.
تفجرت موهبة إدريس الأدبية مع نشر أولى مجموعاته القصصية «أرخص ليالى» عام١٩٥٤وتوالت أعماله القصصية والروائية فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى ولكن فى السبعينيات تفرغ لكتابة المقال الصحفى.. وعندما سئل عن سبب اهتمامه بالمقال أكثر من القصة، قال: «لا أستطيع أن أجلس فى الصالون لأكتب والنار مشتعلة فى بقية المنزل»! فقد تفاعل مع قضايا المجتمع الذى يعايش همومه وأولوياته ليجسد نموذجا للمفكر والمثقف الواعى، باعتباره رهانا أساسيا فى معركة النهوض بالعالم العربى، الذى لا يزال يتخبط فى عدد من القضايا التى لم تحسم منذ مرحلة ما بعد الاستقلال، مثل قضايا الهوية ومفهوم الدولة والعدالة والديمقراطية والعلاقة مع الآخر والحرية، وفقا للكاتب والباحث المغربى د. إدريس الكنبورى، الذى يرى أن استئناف المثقف دوره من جديد، يتحقق من خلال مدخل يربط القلم بالعمل؛ ويتمثل ذلك فى هبوط المثقف إلى الهموم اليومية التى يعيشها المواطن العربى، بدل التنظير من خلال برج عاجى يعزل المثقف عن الناس.
وبعد مرور نحو ربع قرن على رحيل يوسف إدريس، لا يزال فقر الفكر يراود بعض المثقفين والمفكرين خاصة أن أجندتهم الفكرية لا تمت بقضايا وهموم الناس بصلة!.
ففى ظل الظروف والتحديات التى تواجه الدولة على حدودنا الشرقية والغربية والجنوبية فضلا عن الأخطار المحدقة بالوطن العربى كله، وفى الوقت الذى وضع فيه الكثيرون من مفكرى العالم، القضية الفلسطينية وحرب الإبادة بغزة فى مقدمة أولوياتهم، حيث تزخر وسائل التواصل الاجتماعى بمقاطع فيديو لمفكرين وعلماء وفنانين عالميين يعبرون عن إدانتهم المجازر التى يرتكبها الاحتلال الإسرائيلى، بل خرج الناس العاديون فى مظاهرات بمختلف بقاع العالم يرفضون الهلوكست الفلسطيني.
ومن ناحية أخرى فى الوقت الذى دعت فيه الدولة، المفكرين لوضع أجندة لأولويات القضايا الوطنية على مائدة الحوار الوطنى والتى ناقشت عددا من القضايا ثم اختاروا لهذه المرحلة المحور الاقتصادى لما له من أهمية كبيرة تمس مصالح غالبية الشعب المصرى، ووسط كل هذه التحديات نجد أن بعض الذين يحسبون أنفسهم على فئة المفكرين، منعزلين عن أولويات الدولة أولويات المواطن العادى وأولويات الوطن العربى، ويتغافلون عن كل ذلك ليناقشوا قضايا هامشية وثانوية. بينما لم يقدم هؤلاء المفكرون رؤية تتعلق بالأمن العربى الذى تمزقه النزاعات الداخلية من ناحية والأطماع الخارجية من ناحية أخرى، ولا رؤية لمواجهة تحديات الأمن القومى على حدود مصر، ولا القضايا المطروحة فى أجندة الحوار الوطني..
ان المواطن العادى بفطنته وحسه الوطنى فاق بمبادراته، بعض «المفكرين» المنعزلين عن قضاياه، على سبيل المثال عندما أدرك المواطنون البسطاء أن الدولة دبرت العملة الصعبة وسقطت حجة التجار الذين كانوا يبررون ارتفاع الأسعار بمشكلة الدولار، وجدنا هؤلاء المواطنين يتحركون فى حملات لمقاطعة التجار الجشعين، متقدمين بذلك على أولئك المثقفين الذين تجاهلوا هذه القضايا.
لمزيد من مقالات د. محمد يونس رابط دائم: