الإعلام له وظائف عدة، الخبر والتحليل أحد أهم هذه الوظائف، لكن الخبر والصورة والتحليل لم تصبح مادة بريئة خالية من الرسائل السياسية أو الثقافية؛ فقد باتت أدوات مهمة لبث هذا النوع من الرسائل، وصولا إلى الدفاع عن أيديولوجيات محددة. هناك مدارس كبيرة فى شأن العلاقة بين الإعلام والسياسة. المدرسة الليبرالية تؤكد قيمة «حرية الإعلام» وعدم التدخل، وحق الوسيلة الإعلامية فى تحديد مضمون رسالتها الإعلامية. فى المقابل دافعت مدارس أخرى عن خطورة ترك الإعلام بلا ضوابط، وصولا إلى تأكيد حق الدولة فى تحديد مضمون الرسالة الإعلامية.
الخبرات الدولية والإقليمية قدمت دروسا مهمة بعيدة عن هذه المدارس النظرية. الإعلام فى الديمقراطيات الغربية لم يعد حُرا كما كنا نتصور، كذلك فإن الأنظمة المغلقة لم تعد تمتلك القدرة الكاملة على التحكم فى الإعلام. الدول الناشئة هى الأخرى قدمت خبرات ودروسا مختلفة فى هذا المجال. إقليم الشرق الأوسط عرف منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى ظهور عدد من القنوات الإخبارية ذات الطابع الإقليمي، اتسمت فى معظمها بعدد من السمات المشتركة، أبرزها اعتمادها على موارد مالية رسمية أو شبه رسمية، بشكل مباشر أو غير مباشر، دون أن ينفى ذلك اتجاهها إلى تطوير مواردها المالية الذاتية. لكن الأهم من ذلك أن بعضها لم ينفصل تماما عن مشروعات سياسية بعينها، ولم يتحرر من الدفاع عن قيم أو توجهات أو مصالح محددة. ولا يمثل ذلك عيبا فى حد ذاته، لكن المشكلة تبدأ عندما تتبنى هذه القنوات الدفاع عن تيارات أو مشروعات سياسية بعينها تأتى على حساب الاستقرار الداخلى أو الأمن الإقليمى، أو عندما تسهم فى تعميق الاستقطاب الإقليمى.. إلخ.
الإقليم يشهد الآن حالة من تنوع وتعدد القنوات الإخبارية، وهى تمثل فى حد ذاتها ظاهرة صحية، خاصة أن أغلبها قنوات عربية، بحكم الثقل العربى فى الإقليم. فى هذا السياق، جاءت أهمية قناة القاهرة الإخبارية التى انطلقت فى ٣١ أكتوبر ٢٠٢٢، أى قبل أقل من عامين، والتى نجحت خلال هذه الفترة الزمنية المحدودة فى تحقيق نجاحات كبيرة ضمنت لها المنافسة المهنية مع مجموعة القنوات الإخبارية الإقليمية القائمة.
تحليل مضمون الرسالة الإعلامية لقناة القاهرة الإخبارية يكشف أنها محملة بحزمة من القيم العليا والرسائل المهمة. هذه القيم والرسائل تأكدت خلال تغطية القناة لمجموعة الأزمات التى شهدها الإقليم منذ انطلاقها، بدءا من اندلاع الصراع الداخلى الراهن فى السودان فى أبريل ٢٠٢٣، ثم العدوان الإسرائيلى الجارى على قطاع غزة، مرورا بالحرب الروسية ــ الأوكرانية والصراع الجارى على قمة النظام العالمى وتداعياته على الإقليم والمصالح العربية.
أولى تلك القيم هى حماية الدولة الوطنية العربية، التى مازالت تواجه تحديات ضخمة بفعل الصراعات الداخلية، أو ممارسات دول الجوار الإقليمي، فضلا عن مشروعات الفاعلين من دون الدولة (الميليشياوية أو الدينية). ثانية هذه القيم هى الدفاع عن الأمن القومى العربى فى مواجهة أنماط مختلفة من التهديدات، التقليدية وغير التقليدية. ثالثة تلك القيم هى الدفاع عن مركزية الكتلة العربية فى الإقليم فى مواجهة المشروعات الإقليمية التى يأتى بعضها على حساب الأمن القومى العربى والمصالح العربية. القيمة الرابعة، وهى نتيجة طبيعية للقيم الثلاث السابقة، هى الدفاع عن القضية الفلسطينية فى مواجهة مختلف التحديات الضخمة التى تواجهها. وأخيرا، وليس آخرا، هى تقديم رؤية عربية إزاء الصراع الجارى على قمة النظام العالمي، بهدف تعزيز المصالح العربية فى ظل مرحلة الانتقال الحالية فى النظام.

هذه القيم منحت الرسالة الإعلامية للقاهرة الإخبارية بعدا وزخما مهما؛ فمن ناحية تأكد من خلالها البعد القيمى المهم فى رسالة القناة باعتبارها قناة عربية تعبر عن «المصالح العربية العليا»، فى ظل مرحلة شديدة الحساسية فى مسار التفاعلات والتحولات الجارية فى الإقليم وفى هيكل النظام العالمي، أكثر منها أداة للتعبير عن المصالح والتوجهات المصرية، وهى رسالة عبرت عنها النخبة العربية؛ من السياسيين والأكاديميين العرب الذين ظهروا على شاشة القناة منذ انطلاقها. ولا ينفى ذلك، من ناحية أخرى، أن هذه القيم تمثل جزءا من العقيدة السياسية للدولة المصرية، وهى عقيدة سابقة على ظهور القاهرة الإخبارية، الأمر الذى يكشف عن توافق المصالح العربية العليا فى هذه المرحلة ــ كما عبرت عنها هذه النخبة العربية ــ مع هذه العقيدة المصرية.
قدرة القاهرة الإخبارية على التعبير عن هذه المصالح العربية العليا لم يكن لتحدث لولا التزام القناة، وفرقها البحثية والإعلامية، بقيم وقواعد المهنية والموضوعية، والقدرة على تمثل هذه المصالح والدفاع عنها، والقدرة على الانتشار السريع داخل مناطق الأزمات، والتوظيف المهنى الموضوعى للصورة والفيديو والتحليل، فى مواجهة إعلام عالمى بات يعانى انكشافا سياسيا وأخلاقيا كشفته بوضوح أزمة العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة.
يمكن أن نقف على حجم تأثير القاهرة الإخبارية بتصور غيابها فى ظل الأزمات المتتالية التى يشهدها الإقليم والعالم، خاصة أزمة العدوان الإسرائيلى الراهن على غزة، والتى كشفت عن عمق الأزمة الأخلاقية التى يعانيها الإعلام الغربى، والذى تماهى بشكل كامل مع السرديتين الإسرائيلية والأمريكية؛ ماذا لو لم يكن لدينا هذه المنصة الإعلامية المهمة للتصدى لهذه السرديات من خلال طرح سردية عربية والدفاع عنها. لقد تحولت القاهرة الإخبارية إلى منصة ووجهة للنخب السياسية والأكاديمية العربية لمواجهة وتفنيد هذه السرديات، وجزء من عملية توثيق الجرائم الإسرائيلية فى قطاع غزة.
هكذا، وفى مواجهة المقولات النظرية التى دافعت عنها المدرسة الليبرالية حول حرية الإعلام والتى تتهاوى أمام الواقع التطبيقى للإعلام الغربى، فإن الخبرات التى تأتى من داخل دول ناشئة، مثل مصر، تؤكد أن الأهم هو وجود قيم عليا تحكم الرسالة الإعلامية، الأمر الذى أسهم فى تعبير القاهرة الإخبارية عن شواغل وضمير هذا الإقليم.
تحليل مضمون الرسالة الإعلامية لقناة القاهرة الإخبارية يكشف أنها محملة بحزمة من القيم العليا والرسائل المهمة. هذه القيم والرسائل تأكدت خلال تغطية القناة لمجموعة الأزمات التى شهدها الإقليم.
[email protected] لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات رابط دائم: