رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

المراجعات مطلوبة من الجميع

الأزمة الحالية فى غزة ليست الأولى فى إقليم الشرق الأوسط، لكنها هى الأخطر، لأسباب تتعلق بتداعياتها على أمن الإقليم، بل وربما تقود إلى تغيير شكل الإقليم. لقد كشفت الأزمة عن العديد من الظواهر التى تحتاج إلى مراجعات جوهرية. الدعوة إلى إجراء هذه المراجعات بدأت بالفعل، لكنها وُجهت لأطراف دون غيرها. الأطراف جميعها تحتاج إلى إجراء هذه المراجعات، الأطراف المباشرة: إسرائيل بكل تياراتها السياسية والدينية، وبكل مؤسساتها السياسية والأمنية والعسكرية. القوى الفلسطينية تحتاج أيضا إلى هذه المراجعات. لقد كشفت الأزمة كذلك عن حاجة الولايات المتحدة إلى إجراء مراجعات مهمة.

أولى المراجعات المطلوبة على الجانب الإسرائيلى تتعلق بالاقترابات التى اعتمدتها الحكومات الإسرائيلية لحماية أمن إسرائيل. لقد افترضت هذه الحكومات، ومعها المؤسسات الأمنية والعسكرية والتيارات الدينية، أن أمن إسرائيل يمكن ضمانه فقط من خلال الاقترابات الأمنية والعسكرية تجاه الأشقاء الفلسطينيين وتجاه الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى، وأن الاقتراب الاقتصادى تجاه باقى دول الإقليم يمكن أن يُغْنِى عن أى عملية سياسية تنتهى بإقامة الدولة الفلسطينية. هذا الافتراض ثبت خطؤه تماما؛ فلا الاقتراب العسكرى ــ الأمنى ضمن أمن إسرائيل، ولا حقق حلم إسرائيل فى تصفية القضية الفلسطينية، ولا ضمن حتى استدامة الاقتراب الاقتصادى مع باقى دول الإقليم. المراجعة الثانية تقع على عاتق المجتمع الإسرائيلي، وترتبط بخطورة هيمنة اليمين الدينى والسياسى على المؤسستين السياسية والتشريعية داخل إسرائيل. لقد كشفت الأزمة أكثر من أى وقت مضى عن عمق وخطورة اختطاف القرار السياسى والعسكرى من جانب هذا التيار، خاصة اليمين الدينى المتطرف. وأخيرا وليس آخرا، فإن إسرائيل فى حاجة إلى الوصول إلى استنتاج مهم من هذه الأزمة، مفاده أن السياسات الإسرائيلية فى الإقليم بشكل عام، وتجاه الفلسطينيين بشكل خاص، يمكن أن تقود إلى تفجير الإقليم. أمن الإقليم لا يخص إسرائيل فقط، أمن واستقرار الإقليم هو مصلحة إقليمية ودولية. يرتبطا بذلك استنتاج آخر، أن أمن واستقرار الإقليم يستند إلى ركائز مهمة، أبرزها موازين القوى، والمعاهدات الرئيسة المنظمة لتفاعلات إسرائيل مع الدول الرئيسة بالإقليم. هناك مصلحة مهمة فى الحفاظ على هذه الركائز وصيانتها. السلوك الإسرائيلى فى الإقليم بات يمثل تهديدا لهذه الركائز، الأمر الذى سيؤثر بدوره على معطيات وتوجهات عدة فى الإقليم.

على الجانب الفلسطيني، أولى المراجعات المطلوبة تتعلق بحالة الانقسام الفلسطينى ــ الفلسطينى، لقد كشفت الأزمة الراهنة عن التكاليف الضخمة التى دفعها الفلسطينيون، ودفعتها القضية الفلسطينية بسبب هذه الانقسام. هذه التكاليف يمكن أن تكون أكثر بكثير خلال الفترة المقبلة إذا استمر هذا الانقسام. إنهاء الانقسام يتطلب التحلى بالتجرد والمرونة والبراجماتية السياسية. المراجعة أو البراجماتية السياسية لا تعنى التنازل عن القضية أو التنازل عن الحقوق الفلسطينية. المراجعة والبراجماتية تمثل فى بعض الحالات شرطا للبقاء. مراجعة أدبيات وخبرات حركات المقاومة تؤكد هذه الحقيقة، خاصة عندما يتعلق الأمر بهذا النمط من الصراعات المعقدة الطويلة الأمد. كذلك، هناك حاجة ملحة لمراجعة القوى الفلسطينية لطبيعة ارتباطاتها ببعض الأطراف الإقليمية، من خلال تقييم موضوعى لهذه الارتباطات، استنادا إلى معايير المكسب والخسارة، وبعيدا عن الحسابات الأيديولوجية. لقد كشفت الأزمة عن حقيقة مهمة مفادها أن الإطار العربي، وفى القلب منه مصر، هو الإطار الحقيقى والطبيعى لإدارة الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى وحماية الحقوق الفلسطينية. وحتى عندما تم توظيف الإطار الدولى، كما تم خلال هذه الأزمة، فإن ذلك قد جاء استنادا إلى الحركة العربية المنظمة، والتنسيق العربى ــ الدولى. التغير النسبى فى مواقف القوى الدولية من العدوان الإسرائيلى الجارى على قطاع غزة لم يأت إلا نتيجة الجهود السياسية والدبلوماسية المصرية والعربية. هذا لا يعنى بحال من الأحوال أن أيا من الدول العربية صاحبة وصاية على القرار الفلسطينى أو قرارات المقاومة الفلسطينية، لكن الأزمة كشفت بما لا يدع مجالا للشك أن بعض هذه القرارات قد يُرتِب آثارا تتجاوز إطارها الجغرافى المباشر، بل قد يُرتِب «واقعا إستراتيجيا» يضر بالمصالح الفلسطينية ذاتها، الأمر الذى يحتم التنسيق الفلسطينى ــ العربى، والحفاظ على عروبة القضية الفلسطينية.

المراجعات مطلوبة أيضا من جانب الولايات المتحدة. أولى تلك المراجعات تتعلق بضرورة تمييز الولايات المتحدة بين مسئولياتها كقوة عظمى ما زالت تهيمن على قمة النظام العالمى، وبين مسئولياتها تجاه إسرائيل كحليف استراتيجى له خصوصيته التى لا يمكن إنكارها. الولايات المتحدة كقوة عظمى عليها مسئولية كبيرة ومؤكدة لحماية وصيانة «السلع العامة» داخل النظام العالمي، وعلى رأسها «الأمن العالمى»، وحماية القيم الرئيسية التى ما زال يقوم عليها هذا النظام، وصيانة أمن الأقاليم الرئيسية، وفى مقدمتها إقليم الشرق الأوسط، وحماية الركائز الأساسية التى يقوم عليها أمن هذا الإقليم. لقد أفرطت الولايات المتحدة فى تأكيد دعمها للحليف الإسرائيلي، وحتى عندما كشفت الإدارة الأمريكية الحالية عن بعض الخلافات أو «الضوابط»/ «الخطوط الحمراء» فى سياق تطور العدوان الإسرائيلى الجارى على قطاع غزة، فإن ذلك لم يقترن برسائل أمريكية واضحة وقاطعة لحليفتها، الأمر الذى شجع الأخيرة على تجاوز هذه «الخطوط»، وعدم الاكتراث بها. عدم تصرف الولايات المتحدة كـ «قوة عظمى» جعلها تبدو- وفق العديد من التحليلات ــ وكأنها تابعة لإسرائيل وليس العكس. وحتى عندما اتجهت الولايات المتحدة إلى تأكيد حضورها فى البحر الأحمر وتنفيذ بعض العمليات ضد جماعة «أنصار الله» (الحوثي)، فإن الرسالة لم تكن أيضا بالوضوح الكافي؛ فبدلا من أن تأتى تلك العمليات فى إطار المسئولية الأمريكية لحماية حرية الملاحة العالمية، فإنها جاءت فى سياق دعم الحليف الإسرائيلى، وتوفير السياق الداعم لاستمرار العدوان على غزة. وجاءت هذه العمليات العسكرية فى التحليل الأخير لتنال من حرية الملاحة فى هذا الممر العالمى الشديد الحساسية بالنسبة للتجارة العالمية.

الولايات المتحدة فى حاجة إلى مراجعة وتقييم لسياسات حليفتها، وحجم التكاليف التى باتت تتكبدها بسبب هذه السياسات. لقد أضرت السياسات الإسرائيلية بشكل عام، والعدوان الجارى على غزة بشكل خاص، بصورة الولايات المتحدة كقوة عظمى، وألحقت عطبا بحزمة القيم التى نصبت الولايات المتحدة نفسها حامية لها، وعلى رأسها احترام حقوق الإنسان، خاصة الحق فى الحياة، وأضرت كذلك بالقانون الدولى والقانون الدولى الإنسانى، والمنظومة الأممية...إلخ، وهى حزمة القيم والمؤسسات التى يقوم عليها النظام العالمى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو النظام الذى أسهمت الولايات المتحدة نفسها فى تأسيسه وورثته بعد تفكك الاتحاد السوفيتى، وما زال يمثل أساسا لمرحلة الهيمنة الأمريكية. خلاصة القول، إن الحليف الإسرائيلى وسياساته فى الإقليم باتا عبئا على الولايات المتحدة.

لقد بذلت مصر من جانبها جهدا ضخما من أجل وقف هذا العدوان، والحفاظ على ركائز أمن واستقرار الإقليم، استنادا إلى المبادئ الحاكمة للنظام العالمى، وتظل المسئولية على باقى الأطراف للخروج من أزمة لم يتعرض لها الإقليم من قبل.

 

لقد كشفت الأزمة عن حقيقة مهمة مفادها أن الإطار العربى، وفى القلب منه مصر، هو الإطار الحقيقى والطبيعى لإدارة الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى وحماية الحقوق الفلسطينية.

[email protected]
لمزيد من مقالات محمد فايز فرحات

رابط دائم: