رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

«كلاب» وذيول

الكلاب فى الطبيعة تهز ذيولها، أما فى عالم السياسة فإن الذيول تهز الكلاب أحيانا. القاعدة فى عالم السياسة هى أن القوى الكبيرة توجه سلوك القوى الصغيرة.غير أن القوى الصغيرة تنجح أحيانا فى توجيه الكبار للتصرف بطريقة تخدم مصالحهم.

الحديث عن الذيول والكلاب يبدو ثقيلا على الأذن العربية، غير أن هذه الاستعارة هى من الاستعارات الشائعة الاستخدام فى الدراسات السياسية الغربية. وفقا لمعجم مريام وبستر، فإن تعريف الذيل الذى يهز الكلب هو حالة خضوع شخص مرموق أو كيان كبير لسيطرة شخص أو كيان أقل قوة وأهمية منه. المعاجم الغربية لا تقتصر على شرح المفردات، وإنما تتسع لشرح الاستعارات والمصطلحات والتعبيرات، فأى شىء يتم استخدامه للتعبير والتواصل ونقل الأفكار هو من صميم عمل المعاجم، وهو تقليد أتمنى لو تتسع له المعاجم العربية.

للذيل الذى يهز كلبه أمثلة وتطبيقات كثيرة فى العلاقات الدولية، حدث أشهرها فى الحرب العالمية الأولى، عندما نجح الصغار فى جر الكبار لحرب كبرى لم يسع إليها أى منهم. كان القوميون الصرب يكافحون من أجل استكمال تحرير وتوحيد ما يعتبرونه صربيا التاريخية، مستندين إلى دعم الإمبراطورية الروسية التى نصبت نفسها مدافعا عن الشعوب السلافية. قامت مجموعة من القوميين الصرب باغتيال ولى عهد النمسا فى سراييفو عاصمة البوسنة، التى كانت فى ذلك الوقت خاضعة للإمبراطورية النمساوية، فيما يعتبرها القوميون الصرب جزءا من وطنهم. النمسا هى الحليف الأصغر لألمانيا، أكبر القوى الأوروبية. استقواء بمساندة ألمانيا، لكن دون تشاور مسبق معها، أعلنت النمسا الحرب على صربيا انتقاما لولى العهد المغدور. حرصا على مصداقيتها فى عالم الشعوب السلافية دخلت روسيا الحرب ضد النمسا دفاعا عن صربيا. روسيا امبراطورية كبيرة لديها جيش أكبر بكثير من جيش النمسا التى باتت مهددة بالهزيمة، لذا دخلت ألمانيا الحرب دفاعا عن حليفها الصغير الذى خلق بتصرفاته المنفردة موقفا شديد الخطورة.توسعت الحرب، واستمرت لأربعة أعوام، شملت خلالها كل القارة الأوروبية وبعض المناطق خارجها أيضا.

ينشأ وضع خطير عندما تشعر قوة صغيرة بأن لها أهمية خاصة لدى قوة كبيرة لا تتخلى عنها فى وقت الشدة. الثقة فى دعم القوة الكبيرة يغرى القوة الصغيرة للتخلى عن الحذر، ويشجعها على الدخول فى مغامرات غير محسوبة، الأمر الذى قد ينتهى بكارثة.

ثلاثة أشكال مختلفة لرابطة الكلب والذيل التى يحظى فيها الأخير بالأفضلية. هناك أولا علاقة التحالف السياسى والدفاعي؛ وفيها ترتبط المصالح السياسية والأمنية للطرفين. المهم فى هذه العلاقة هو أن يربط الطرف الأكبرمصالحه وأمنه بالقوة الأصغر، بحيث يكون مستعدا لتحمل مسئوليات رعايتها والدفاع عنها، فى حين تتمتع القوة الصغرى باستقلال يسمح لها بالتصرف بحرية تقود أحيانا إلى توريط القوة الأكبر فى مغامراتها.العلاقات بين ألمانيا والنمسا قبيل الحرب العالمية الأولى هى نموذج صريح لهذا الشكل من علاقات الارتباط بين الصغار والكبار.

هناك ثانيا علاقة الارتباط المعنوى والأيديولوجى، وفيها يكون للطرف الأصغر مكانة أخلاقية وقيمة معنوية أو أيديولوجية تجعل القوة الأكبر حريصة على الفوز بشرف مساندةالشريك الصغير، وبما يتيح للأخير ابتزاز الطرف الأكبر، وإلا تم حرمانه من شرف التضامن والمساندة، وما يجلبه من شرعية ومكانة؛ وهذه أمور معنوية لها قيمة كبيرة جدا فى عالم السياسة. العلاقة بين فلسطين والعرب والمسلمين هى نموذج مثالى لهذه العلاقة، حيث التكلفة السياسية للوصم بالتخاذل أو الخيانة باهظة. دفع الكبار من بلاد العرب والمسلمين للتحرك لمصلحة فلسطين، حتى لو أدى ذلك إلى توريطهم فيما لا قبل لهم به، هو الاستراتيجية المفضلة لممثلى الفلسطينيين من فتح والجبهة الشعبية إلى حماس والجهاد الإٍسلامى، فنجحوا أحيانا وفشلوا أحيانا أخرى.

هناك ثالثا الاختراق السياسى، عندما تخترق القوة الأصغر مؤسسات صنع القرار فى القوة الأكبر، وتجعلها ترى الأمور بعيونها، فتضع راضية مواردها فى خدمة الشريك الصغير، حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بالمصالح الخاصة بالقوة الأكبر. العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة هى نموذج مثالى للاختراق. فسياسة الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط هى فى مكوناتها الأساسية نفس سياسة إسرائيل فى المنطقة بسبب اختراق اللوبى المؤيد لإسرائيل للمؤسسات السياسية فى الولايات المتحدة.

لا يوجد ذيل نجح فى هز كلبه مثلما فعلت إسرائيل مع الولايات المتحدة. فعلاقة إسرائيل بأمريكا لا تتمثل فقط فى نجاح إسرائيل فى اختراق المؤسسات الأمريكية، وإنما أيضا لأن إسرائيل مثلت لأمريكا مصلحة استراتيجية مهمة، خاصة فى مرحلة الحرب الباردة؛ ولأن لإسرائيل فى نظر كثير من الأمريكيين قيمة معنوية وأخلاقية بسبب نظامها السياسى (الديمقراطى)، وموقع اليهود فى عقيدة الطوائف الإنجيلية الواسعة الانتشار فى الولايات المتحدة، وكذلك بسبب الويلات التى تعرض لها اليهود حتى الحرب العالمية الثانية.

الجديد فى العلاقة الأمريكية الإسرائيلية هو أن إسرائيل تفقد تدريجيا بعض عوامل قوتها فى العلاقة مع الولايات المتحدة. فسياسة إسرائيل فى المنطقة أصبحت تمثل عبئا على الولايات المتحدة بدرجة متزايدة، فيما يتآكل إجماع الأمريكيين حول إسرائيل، ويتسبب تزايد نفوذ اليمين الدينى فى إسرائيل فى تغيير صورة إسرائيل من مجتمع ديمقراطى منفتح إلى دولة عنصرية متورطة فى الإبادة الجماعية. يبقى اللوبى المؤيد لإسرائيل، وحتى إشعار آخر، متغلغلا فى المؤسسات الأمريكية، فهل يأتى يوم يكف فيه الذيل عن هز كلبه؟


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: