هناك علاقة يمكن تلمسها بين الجغرافيا والثقافة، كلاهما يؤثر ويتأثر بالآخر. الجغرافيا تمثل أحد الروافد المهمة فى تشكيل الثقافة والهوية، الأمر الذى يفسر تباين القيم الثقافية من إقليم جغرافى إلى آخر حتى داخل الدولة الواحدة. ومن ثم، فإن التحولات الجغرافية الكبيرة تؤسس لتحولات مماثلة فى الثقافة. الأمر نفسه فيما يتعلق بتأثير الثقافة على إدراك العمران والفضاء الجغرافى وتحولاته.
هذه المقدمة الهدف منها محاولة فهم الفلسفة التى تقف وراء التحولات الضخمة التى تجرى فى مصر لإعادة بناء الفضاء الجغرافي، والفلسفة التى تحكم التوسع العمرانى الجاري، وكيف ينظر قطاع من المصريين إلى هذا التوسع؟ ولماذا لازال بعض المصريين لا يدرك هذه الفلسفة؟
بداية يمكن القول إن أحد مكونات المشروع التنموى الذى يجرى فى مصر منذ عام ٢٠١٤ هو تسريع عملية التوسع العمراني، بما يشمله ذلك من بناء المدن الجديدة (العاصمة الإدارية الجديدة، العلمين الجديدة، وغيرهما)، والقضاء على العشوائيات، والأهم هو تعميق الارتباط بين الأقاليم والمدن المصرية، بحيث يرتبط هذا التوسع بتعميق التفاعل والترابط بين هذه الأقاليم، على نحو يؤسس لخلق مصالح حقيقية حول هذا العمران، وتحويله إلى مصدر من مصادر التشغيل والنمو الاقتصادي، بل وتغيير تصنيف مصر وفق بعض المؤشرات الدولية ذات الصلة.
هذا التوسع العمرانى لا يجرى دون فلسفة. هناك فلسفة واضحة تحكمه، يمكن تحديد أبرز مكوناتها فيما يلي:
المكون الأول، هو زيادة مساحة الرقعة المأهولة بالسكان؛ إذ لا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية دون زيادة هذه المساحة بشكل يتناسب مع النمو المتسارع فى حجم السكان، والحاجة إلى تغيير ديناميات ومصادر النمو الاقتصادي. يرتبط بذلك العمل على إنهاء ما يمكن تسميته مقولة أو فرضية «حتمية النهر»، التى تقول بأن التطور الاقتصادى والاجتماعى والثقافى فى مصر ارتبط بالنهر، وهى فرضية ارتبطت بمقولات مدرسة الحتمية الجغرافية التى تربط هذا التطور بالجغرافيا. وقد هيمنت هذه «الحتمية» إلى حد كبير على حركة المصريين وثقافتهم منذ نشأة النهر. ما يحدث الآن (رغم قداسة النيل فى الإدراك المصرى ولدى الدولة المصرية) هو تحرير عملية التطور الاقتصادى والاجتماعى من أسر النهر، من خلال تجاوز ارتباط حركة العمران بنهر النيل.
المكون الثاني، وهو نتيجة منطقية للمكون الأول، العمل على إحداث قطيعة مع ما يمكن وصفه بثقافة «الضيق» إن جاز التعبير، وهى ثقافة تقوم على رفض أو معارضة التوسع، والميل إلى الإبقاء على الواقع القائم، استنادا إلى مبررات مختلفة. لا يمكن تفسير وفهم معارضة التوسع العمرانى دون الرجوع إلى الخبرات الثقافية للمجتمع، بدءا من ثقافة وخبرة «الحارة» التى تقوم على الأزقة الصغيرة، التى تكفى بالكاد لسير فرد أو عدد محدود من الأفراد، وانتهاء بثقافة المناطق الشعبية التى قامت على تقاليد التزاحم والازدحام. هذه الثقافة، التى يمثل بعضها جزءا من التاريخ، لا تمثل عيبا فى حد ذاتها، لكنها يجب ألا تمتد لتؤثر على إدراك المجتمع للتوسع العمرانى الجارى والفلسفة التى يقوم عليها، والتى تُعطى وزنا أكبر لقيم التحديث والحراك، وخلق فضاءات جغرافية أوسع، وتعميق التفاعل بين الأقاليم...إلخ. ولا يمكن تفسير صعوبة قبول البعض التوسع العمرانى الجارى وفلسفته دون فهم خبرة المجتمع مع عملية التنمية والتوسع العمرانى خلال العقود السابقة على بدء المشروع التنموى فى عام ٢٠١٤، فقبل ذلك التاريخ لم يعرف المجتمع المصرى توسعا عمرانيا بهذا الحجم أو بهذه الفلسفة، واقتصر التوسع على عدد محدود من المدن الجديدة من الجيلين الأول والثاني، بجانب التوسع المُفْرِط فى العشوائيات بواقعها الاقتصادى والاجتماعى والثقافي. إن إحدى المشكلات التى تواجهنا اليوم هى ما يمكن وصفها بمتلازمات الثقافة التقليدية، وأبرزها «ثقافة الضيق» أو «الزنقة» التى تمثل محددا لدى البعض فى فهم وإدراك التوسع العمرانى الجارى فى مصر.
المكون الثالث، هو التأسيس لدولة قوية. الذى يعود إلى ثقافة البناء والعمران فى الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، يلاحظ وجود سمة مشتركة فيما بينها، وهى الاعتماد على المبانى الضخمة القوية، وعلى المساحات الشاسعة، وينسحب ذلك حتى على الزخارف والفنون المستخدمة داخل هذا العمران. هذه الفلسفة مثلت أيضا جزءا من الحضارات الكبيرة فى العالم، ويكفى الرجوع هنا إلى إرث الحضارتين الفرعونية والصينية اللتين قدمتا نموذجين مهمين لثقافة العمران فى الدول القوية. العاصمة الإدارية الجديدة تمثل تجسيدا مهما لهذه الفلسفة الحاكمة للعمران فى مصر، والتى تعكسها المبانى الضخمة القوية، ذات الطرازات الرصينة والتاريخية، والتى تعكس بدورها فلسفة العمل على بناء دولة قوية.
ويرتبط بمفهوم القوة هنا أيضا السعى إلى وضع مصر على خريطة الدول ذات المدن العالمية، التى باتت تمثل إحدى مؤشرات التصنيف الدولى، استنادا إلى ما تمتلكه هذه المدن من خصائص سياسية واقتصادية وثقافية، مثل المشاركة والتأثير فى المناسبات الدولية، والقدرة على التأثير فى الاقتصاد العالمى من خلال تركز الشركات المالية الكبيرة المتعددة الجنسيات والمجموعات المصرفية الكبيرة، ووجهة للفعاليات الثقافية الدولية...إلخ. المدن ذات الطابع العالمى (العاصمة الإدارية الجديدة، العلمين الجديدة، بالإضافة إلى مدينة شرم الشيخ) تمثل مدخلا مهما لتغيير صورة مصر فى العالم، وتزيد من القدرات التنافسية المصرية فى مجال المدن ذات الطابع العالمى، وهى أمور تنعكس فى التحليل الأخير على الاقتصاد المصرى ونصيبه من الموارد السياسية والاقتصادية والثقافية الدولية.
ما يحدث الآن رغم قداسة النيل فى الإدراك المصرى ولدى الدولة المصرية هو تحرير عملية التطور الاقتصادى والاجتماعى من أسر النهر، من خلال تجاوز ارتباط حركة العمران بنهر النيل.
[email protected] لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات رابط دائم: