التضخم تهديد خطير بسبب الاضطراب الاجتماعى والاقتصادى الذى يتسبب فيه، والذى شهدنا بعضا منه خلال العام الأخير. التضخم فى منطقة اليورو 2٫4%، وفى أمريكا 3٫2%، ويعتبرونه مرتفعا ويجاهدون لتخفيضه. دعك من هؤلاء المحظوظين، فلو وصل التضخم فى أغلب بلاد العالم لهذه المستويات لاعتبرته الحكومات إنجازا عظيما. مؤشرات التضخم لدينا تتجه للتراجع دلالة على دخولنا مرحلة التعافي. فى كل الأحوال فإن الوضع الصعب الذى مررنا به يعد محتملا بالقياس لما تشهده بلاد أخرى. وصل التضخم عندنا فى أحدث بيان إلى 33٫3%، وهذا مستوى أقل من الذى كان عليه فى الشهر السابق. هناك بلاد وصل التضخم فيها إلى مستويات مخيفة لا تتمناه إلا لأعدائك. فى الأرجنتين بلغ التضخم 276%، وسوريا 140%، ولبنان 68٫5%، وفنزويلا 67٫8%، وإيران 35.8%.
سيكون خطأ كبيرا لو أخذنا التضخم مقياسا وحيدا للسلامة الاقتصادية. التضخم فى سويسرا 1%، وفى جمهورية إفريقيا الوسطى أقل بقليل من 1%، وبالتأكيد فإن إفريقيا الوسطى ليست أفضل حالا من سويسرا. لو أن التضخم هو المقياس الوحيد لصحة الاقتصاد لكانت أفغانستان صاحبة أفضل اقتصاد فى العالم، فالتضخم فيها هو الأقل بين كل دول العالم. يبلغ مستوى التضخم فى أفغانستان (سالب 9٫7%)، أى أنك لو بعت فى هذا العام شيئا سبق لك أن اشتريته فى العام الماضى، فإنك ستحصل على سعر أقل بنحو عشرة بالمائة من السعر الذى دفعته فيه. تخيل أنك تشترى بيتا اليوم لتبيعه بعد عام بخسارة نسبتها عشرة بالمائة. هذه كارثة بكل المقاييس، لأنها تعنى أنه من الأفضل للأفراد الاحتفاظ بالنقود، وتجنب التورط فى شراء أو امتلاك أى شيء لأن قيمة السلع تتناقص، ومحصلة هذا هى توقف البيع والشراء والتجارة وتعطل النشاط الاقتصادى تماما.
ليس كل ارتفاع فى الأسعار يعتبر تضخما، فسعر سلعة قد يرتفع بسبب نقص مفاجئ فى المعروض، وهذا أمر يحدث طوال الوقت بسبب عوامل طارئة أو موسمية. التضخم يحدث عندما تزيد كمية النقود الموجودة فى السوق أسرع كثيرا من زيادة كمية السلع المتاحة، فترتفع أسعار السلع، وتفقد النقود قيمتها. عندما وصل الأوروبيون إلى القارة الأمريكية وجدوا هناك كميات وفيرة من المعادن الثمينة، فزادت كمية النقود التى كانت وقتها تصنع من الذهب والفضة، فارتفعت أسعار السلع، وفقدت النقود قيمتها رغم أنها مصنوعة من معادن ثمينة. لم يكن مصطلح التضخم معروفا فى القرن السادس عشر عندما حدثت هذه الظاهرة، فأطلقوا على ما حدث ثورة الأسعار، رغم أن كل ما حدث هو أن الأسعار كانت تزيد بنسبة 2% سنويا، وظلت على هذا الحال طوال مائة عام متواصلة. طبعا لو حدث شيء مثل هذا اليوم لاعتبرنا الأمر دليلا على رشادة الإدارة الاقتصادية، فـ ٢٪ زيادة فى الأسعار ليست بالشيء المخيف فى نظر أغلب الحكومات، وهو ما يدلنا على الاستقرار الذى كانت عليه الأسعار فى ذلك الزمن القديم.
هذا هو أقصى ما كان يمكن له أن يحدث فى عصر العملات الذهبية والفضية، أما بعد الانتقال إلى النقود الورقية فقد أصبح الوضع مختلفا تماما. فبينما كان حجم النقود فى الماضى محكوما بما يمكن للمناجم أن تنتجه من معادن نفيسة، فقد أصبح بالإمكان اليوم خلق أى كمية جديدة من النقود بمجرد إدارة عجلات المطبعة. إنه أمر مغر فعلا أن يتم حل كل المشكلات المالية بإدارة المطبعة.
عندما كنا صغارا، كنا نسأل مندهشين عن السبب الذى يمنع الحكومة من طبع الكثير من أوراق النقود، وتوزيعها على الناس، فنصبح جميعا أثرياء. سؤال ساذج، لكن صدق أو لا تصدق، بعض الحكومات تتصرف فعلا بهذه الطريقة، فتظن أن بإمكانها حل مشكلاتها بطباعة المزيد من النقود. الأمر طبعا ليس بهذه البساطة، ولكن هذا هو جوهر ما يحدث فى العالم الحقيقى، عندما تتصرف حكومات بطريقة تطلق التضخم من عقاله.
التضخم ظاهرة حديثة جدا مرتبطة بالنقود الورقية، وبأشياء أخرى حدثت فى القرن العشرين أهمها السياسة الجماهيرية. فى العصور قبل الحديثة لم تكن الدولة مطالبة بتقديم الخدمات للمواطنين، لذا لم يكن الملك مشغولا بتوفير النقود من أجل الخدمات، وإنما فقط من أجل تمويل الجيش والحرب. فى بلادنا حتى عصر محمد على باشا كانت الدولة تفرض ضرائب جديدة كلما أرادت تمويل حملة عسكرية جديدة. حروب محمد على فى الحجاز والشام واليونان والأناضول والسودان مولتها ضرائب تعسفية تم انتزاعها من الفلاحين والتجار والصناع. فى فرنسا أراد لويس السادس عشر الحصول على موافقة ممثلى الشعب لفرض ضرائب جديدة تمول حروبه الأوروبية. اجتمع ممثلو الشعب لأول مرة منذ مائة عام، ورفضوا الانفضاض، وقامت الثورة الفرنسية. طباعة النقود الورقية أسهل كثيرا ومخاطرها أقل من التعسف أو التشاور الديمقراطي.
فى المجتمع الحديث لم تعد الدولة تريد النقود فقط لتمويل الحرب، ولكن أساسا لتمويل المطالب والخدمات الاجتماعية المتزايدة. لا يوجد دولة غير مدينة فى العالم، فكل الدول تنفق أكثر مما تجمع من الضرائب، وبعضها يسد العجز بطباعة النقود، فينشأ التضخم. عندما يكون هناك الكثير من الفقراء المستحقين لدعم الحكومة، والقليل من الموسرين القادرين على دفع الضرائب فاحتمالات طبع النقود الورقية وارتفاع التضخم تزيد. الحل هو فى تنمية تقلل أعداد المحتاجين، وترفع عدد القادرين.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: