الحوار الوطنى الذى دعا إليه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى حفل إفطار الأسرة المصرية فى ٢٦ أبريل ٢٠٢٢ أسس لخبرة جديدة فى الحياة السياسية فى مصر، سرعان ما زادت القناعة والإيمان بها من جانب القوى السياسية الوطنية المشاركة فى هذا الحوار ومختلف الفاعلين داخل المجتمع، على نحو دفع الرئيس إلى التأكيد على أهمية الحفاظ على هذه العملية وتطويرها لتصبح «حالة» داخل المجتمع. وقد نجح الحوار بالفعل فى رفع حزمتين من التوصيات إلى السيد الرئيس. الحوار الوطنى كتحول مهم فى الحياة السياسية فى مصر سيُنتِج آثارا مهمة على مستوى تطوير الأبنية القانونية، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية...إلخ، لكن التأثير الأهم والأعمق سيتعلق بتأثيراته المهمة على النظام الثقافى وعلى حزمة القيم الرئيسية داخل المجتمع، وترتيب هذه القيم.
لا شك أن تحولات عدة طرأت على المجتمع المصرى خلال العقود الماضية، كان لها تأثيراتها السلبية على الشخصية المصرية وعلى مجموعة القيم الرئيسية وترتيبها لدى المصريين. تراجعت قيم مهمة، وطغت قيم سلبية أخرى. طبيعة القيم السائدة داخل أى مجتمع، وترتيبها يؤثر بشكل كبير على ظواهر أخرى، بدءا من الاستقرار السياسى والسلم الاجتماعي، وانتهاء بعملية التحديث والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. أحد المداخل الرئيسية التى اعتمدت عليها الأدبيات فى فهم نجاح دول، دون غيرها، فى تحقيق التحديث والتنمية هو المدخل الثقافي. وبعيدا عن مدى دقة ربط التنمية بثقافات محددة دون غيرها، فإن هذا لا ينفى أن مجموعة القيم التى تسود فى مجتمع ما فى مرحلة زمنية محددة تؤثر بالتأكيد على قدرة الدولة على إنجاز مشروعها التنموى.
فى هذا السياق، تأتى أهمية الدور الذى يلعبه الحوار الوطنى، فإلى جانب كونه إطارا لمراجعة الأبنية القانونية والسياسات الاقتصادية والمجتمعية، فإنه يلعب دورا قد لا يقل أهمية فى تعزيز عدد من القيم الإيجابية المهمة.
أولى تلك القيم هى قيمة الحوار نفسها. لا حاجة للتأكيد على أهمية هذه القيمة، التى تمثل واحدة من أهم القيم التى تمثل شرطا رئيسيا لتعزيز السلام الاجتماعى، وشرطا لبناء ديمقراطية حقيقية مستدامة. أحد المكاسب الأساسية التى حققها الحوار الوطنى هو تعزيز الحوار كقيمة مهمة. لم يقتصر الأمر على كثافة استخدام مفردة «الحوار» نفسها داخل المجتمع، بعدما كانت قد تراجعت بشكل كبير فى قاموس المفردات اليومية للمصريين، لكن الأهم هو ممارسة المجتمع (القوى السياسية والفاعلين وأصحاب المصالح) للحوار، سواء داخل مجلس أمناء الحوار الوطنى أو داخل الجلسات العامة والمتخصصة. وحتى من لم يشاركوا فى هذه الجلسات بشكل مباشر، فقد شاهدوا هذه الممارسات على شاشات التليفزيون. لا يمكن التقليل من أهمية هذه الممارسة العملية لمبدأ وقيمة الحوار وتكريسها لهذه القيمة المهمة.
القيمة الثانية هى قيمة التوافق. التوافق هو القيمة المقابلة للاستقطاب والصراع. قيمة التوافق هى إحدى القيم المهمة ضعيفة التجذر داخل المجتمع المصرى، وهى قيمة يتم بناؤها عبر التمرين والممارسة، وهنا تأتى أهمية الدور الذى يقوم به الحوار الوطنى فى تعزيز هذه القيمة عبر مسارين أساسيين: أولهما ــ إضافة مفردة «التوافق» نفسها إلى مفردات قاموس الحياة السياسية المصرية، وتبنى الحوار شعار «مساحات مشتركة» كتعبير ضمنى عن مفهوم «التوافق». ثانيهما ــ الممارسة السياسية الفعلية لبناء هذا التوافق. جرى ذلك داخل أروقة مجلس الأمناء، وداخل الجلسات العلنية، وداخل الجلسات المتخصصة. إن تعزيز قيمة التوافق من شأنه أن يعزز الاستقرار والسلام الاجتماعى، كما يعزز من تجذر ثقافة الديمقراطية.
القيمة الثالثة هى قيمة التفكير والعمل بالأولويات. إحدى المشكلات الأساسية التى قد تواجهها بعض المجتمعات هى غياب التفكير بالأولويات. لا يمكن لأى دولة أن تعمل على كل الأولويات فى نفس الوقت، وهو ما يفرض العمل وفق حزم متتالية من الأولويات. فى ظل ندرة الموارد فإن هذا المنهج فى التفكير والعمل يفرض نفسه على القيادات السياسية، لكن غياب هذه القيمة لدى المجتمع والقوى السياسية قد يخلق فجوة بين القيادة السياسية والمجتمع. لقد برزت أهمية قيمة التفكير بمنهج الأولويات فى دعوة الرئيس إلى الحوار الوطنى، عندما طالب بإجراء «حوار سياسى حول أولويات العمل الوطنى خلال المرحلة الراهنة». ثم جاء الحوار الوطنى نفسه ليكرس هذه القيمة من خلال الممارسة العملية، عندما وضع القوى السياسية وأصحاب المصلحة stakeholder أمام تحدى وضع أولويات محددة بشأن مختلف القضايا والتحديات موضوع الحوار، خاصة بعد أن نجحت القيادة السياسية خلال السنوات العشر الماضية فى إنجاز حزمة محددة من الأولويات لم تكن موضوع خلاف (تثبيت مؤسسات الدولة، القضاء على الإرهاب، تحديث البنية التحتية).
القيمة الرابعة هى الإصلاح. لقد عرفت الدول والمجتمعات منهجين محددين فى التغيير، هما التغيير بالثورة أو التغيير بالإصلاح. لقد كشفت الخبرات الدولية عن خطورة ومحدودية فعالية منهج التغيير بالثورة، بل إنه يقود فى الأغلب إلى تكاليف سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية ضخمة، تصل إلى حد انهيار الدولة واضطراب منظومة القيم، وهو ما شهدته العديد من الدول العربية فى ظل ما عُرف بظاهرة «الربيع العربي». خبرة الدولة والمجتمع المصرى مع الربيع العربى طورت قناعة مستقرة بأن منهج الإصلاح هو المنهج الأكثر أمانا بل والأكثر فعالية. وقد تأكدت قيمة الإصلاح مع وصول قيادة سياسية إصلاحية إلى السلطة فى عام ٢٠١٤. ثم جاءت الدعوة إلى الحوار الوطنى لتكرس هذه القيمة داخل المجتمع. الحوار الوطنى هو إطار لضمان استدامة عملية الإصلاح فى مصر بمعناها الشامل؛ السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافي، وهو ما يفسر انحياز مجلس أمناء الحوار لهيكلة أجندة الحوار وفق هذا المعنى الشامل. نجاح الحوار الوطنى سيساهم بالتأكيد فى تكريس مفهوم ومنهج الإصلاح كقيمة مهمة داخل المجتمع.
ليست هذه هى حزمة القيم الأساسية الوحيدة التى يعززها الحوار الوطنى، فهناك قيم أخرى عدة، لكن ربما تكون هذه هى الأبرز. هذه القيم المهمة ستساهم بالتأكيد فى إزاحة مجموعة من القيم الأخرى السلبية التى تكرست بعد أحداث يناير ٢٠١١، خاصة عندما ينتقل الحوار من كونه عملية إلى حالة أو ثقافة داخل المجتمع المصري. ولا يمكن فهم الفلسفة العميقة التى تقف وراء الدعوة إلى الحوار الوطنى بمعزل عن الرؤية الإصلاحية الشاملة للرئيس السيسى.
فى هذا السياق، تأتى أهمية الدور الذى يلعبه الحوار الوطنى، فإلى جانب كونه إطارا لمراجعة الأبنية القانونية والسياسات الاقتصادية والمجتمعية، فإنه يلعب دورا قد لايقل أهمية فى تعزيز عدد من القيم الإيجابية المهمة.
[email protected] لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات رابط دائم: