ملامح عدة تميز المشروع الوطنى، أبرزها النهضة العمرانية الواسعة، والفلسفة الجديدة التى تحكم هذا التوسع العمرانى، على نحو يؤسس لعلاقة جديدة بين المصريين والجغرافيا المصرية، واستحداث قطاعات اقتصادية جديدة.
قد تمضى عقود، وربما مئات السنوات، دون أن يكون لدى الدولة مشروع وطنى واضح؛ إذ يرتبط وجود مثل هذه المشروعات بوجود قيادة سياسية لديها قناعة قوية بأهمية التغيير والتحديث، ورؤية محددة حول هذا التحديث، ورؤية أكثر وضوحا حول التحديات التى تواجه هذا المشروع. هذا هو جوهر ما يجرى فى مصر منذ عام ٢٠١٤ وحتى الآن. فقد دشنت مصر بوصول الرئيس عبدالفتاح السيسى مشروعها التنموى الذى وضعها ضمن فئة الاقتصادات الناشئة.
ملامح عدة تميز هذا المشروع، أبرزها النهضة العمرانية الواسعة، والفلسفة الجديدة التى تحكم هذا التوسع العمرانى على نحو يؤسس لعلاقة جديدة بين المصريين والجغرافيا المصرية، واستحداث قطاعات اقتصادية جديدة تغير شكل وهيكل الاقتصاد المصري؛ مثل قطاعى اللوجستيات والمعادن النادرة وغيرهما، وبناء مزيج جديد من مصادر النمو الاقتصادى يعزز من صلابة الاقتصاد المصرى فى مواجهة التحولات الدولية والإقليمية العنيفة، وتعزيز الوزن النسبى للقطاعات الاقتصادية غير الخدمية (الصناعة والزراعة). على المستوى السياسى تبرز الدعوة إلى الحوار الوطنى باعتباره إطارا لبناء توافق حول أولويات العمل الوطنى وتعميق مفهوم وعملية الإصلاح داخل المجتمع، ومراجعة الأبنية التشريعية والاقتصادية والمجتمعية. أضف إلى ذلك سياسات تمكين المرأة والشباب بالنظر إلى وزنهما المهم داخل المجتمع وعلاقتهما بتسريع أى عملية إصلاح.
ليست هذه هى الملامح الوحيدة للمشروع الوطنى الجارى فى مصر، لكنها تمثل الملامح الأبرز فى تقديرى. البعض للأسف لم يقرأ فلسفة هذا المشروع بدقة، ومال إلى اختزاله ــ على سبيل المثال ــ فى البعد الخاص بتنمية وتحديث البنية التحتية، رغم أن البدء بتحديث البنية التحتية هو القاسم المشترك بين العديد من التجارب التنموية التى سبقتنا، وعلى رأسها الصين، التى بدأت تجربتها التنموية فى نهاية سبعينيات القرن الماضى، وهو ما أكده وفد أكاديمى من مجلس مستشارى مجلس الدولة الصينى، برئاسة د. تشانج يانتونج، نائب رئيس المجلس، أثناء زيارته لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية فى الأول من يونيو ٢٠٢٣، والذى أشار إلى سمتين أساسيتين ميزتا التجربة التنموية الصينية، الأولى هى البدء بتحديث البنية التحتية، والثانية هى الدور المهم الذى اضطلعت به الدولة فى تدشين وتسريع عملية التنمية.
نجاح أى مشروع وطنى يتطلب أيضا إستراتيجية لحمايته. أى مشروع وطنى لا يعمل فى فراغ، ومن ثم من الطبيعى أن يواجه تحديات من داخل البيئتين الخارجية والداخلية معا. على المستوى الخارجى، يعمل المشروع الوطنى المصرى فى بيئة إقليمية مأزومة (انهيار الدولة فى عدد من دول الجوار، بروز الفاعلين المسلحين من دون الدولة، وجود مشروعات للهيمنة الإقليمية تقوم على تحالف بين بعض الدول والفاعلين من دون الدولة، عودة الصراعات المسلحة إلى الإقليم، استمرار التنظيمات الإرهابية... إلخ). يصدق الأمر نفسه على البيئة الدولية التى تعانى من وجود صراع غير مباشر على قمة النظام الدولى بين روسيا من ناحية، والولايات المتحدة وحلف الناتو من ناحية أخرى، و«تنافس إستراتيجى» بين الولايات المتحدة والصين، قد يتحول فى لحظة ما إلى صراع مباشر. هذه البيئة الصراعية تخلق ارتدادات عكسية على المشروع الوطنى المصرى، على المستويين السياسى والاقتصادى.
هكذا، فإن القيادة السياسية عندما تدشن مشروعها الوطنى تضع فى اعتبارها دائما هدف حماية هذا المشروع. بعض المشروعات التنموية انهارت بسبب عدم ارتباطها بإستراتيجية وطنية تحميها من مصادر التهديد المختلفة. هنا يمكن أن نفهم مركزية مفهوم «الدولة الوطنية» فى خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ عام ٢٠١٤ وحتى الآن، وأهمية ارتكاز الإقليم إلى مبدأ الدولة الوطنية، وأهمية إنهاء أى مشروعات موازية للميليشيات والتنظيمات والفاعلين من غير الدول، والتى تمثل عبئا على الدولة واستقرار وأمن الإقليم. ويمكن أن نفهم أيضا الانخراط الإيجابى لمصر فى الأزمات الإقليمية لمساعدة الدول المأزومة على العودة إلى مسارها الطبيعى من خلال عمليات سياسية وطنية. يمكن أن نفهم أيضا السياسة الخارجية المصرية المتوازنة إزاء القوى الدولية، والانخراط فى التحولات التحتية الجارية فى المؤسسات والمجموعات الدولية، على نحو يضمن لمصر الاستفادة من حالة السيولة القائمة فى النظام الدولى، من ناحية، ويجنب مصر، من ناحية أخرى، دفع أية تكاليف للصراعات الجارية والمحتملة على قمة النظام. يمكن أن نفهم كذلك حرص الرئيس السيسى على عدم توريط مصر فى أية صراعات فى الإقليم، ما لم يتعرض الأمن القومى المصرى لتهديد مباشر. فى هذا السياق أيضا نفهم لماذا جاءت «أولوية حماية وصون أمن مصر القومى فى محيط إقليمى ودولى مضطرب، ومواصلة العمل على تعزيز العلاقات المتوازنة مع جميع الأطراف فى عالم جديد تتشكل ملامحه» فى الترتيب الأول فى خطاب التنصيب فى الثانى من شهر أبريل الجارى.
على المستوى الداخلى، جاء الإرهاب فى مقدمة تحديات المشروع الوطنى، وقد نجحت الدولة المصرية خلال السنوات العشر الماضية فى القضاء على هذا التهديد، وتفكيك بنيته التنظيمية والمالية. لكن هذا التهديد ليس هو الوحيد؛ فهناك حاجه لزيادة الوعى بهذا المشروع الوطنى وطبيعة التهديدات التى تواجهه من وقت لآخر. أول شروط هذا الوعى هو إدراك أن أى مشروع وطنى يواجه مثل هذه التحديات، من ناحية، وأنه يثير، من ناحية أخرى، رؤى وإدراكات ومصالح متباينة؛ فمثل هذه التباينات مسائل طبيعية، لكن لا يجب أن تأتى على حساب إيماننا بمشروعنا الوطنى وتوفير الظروف والشروط الملائمة لنجاحه. ويفسر ذلك تركيز الرئيس السيسى دائما على قضية الوعى. الشعب المصرى أبدى حتى الآن درجة كبيرة من هذا الوعى، تأكدت فى محطات مختلفة، أبرزها تحمل المصريين تكاليف الإصلاح الاقتصادى فى مراحله المختلفة. لكن كان المؤشر الأهم هو تكليف السيد الرئيس بمدة رئاسية جديدة لاستكمال مشروعنا الوطنى.
ومع أهمية هذه المؤشرات، لكن فى تقديرى ما زلنا فى حاجة إلى تعميق الوعى بهذا المشروع الذى قد لا تتوفر لدينا فرصة أخرى لامتلاكه. نحن إزاء مشروع كبير تحقق منه الكثير على الأرض خلال فترة زمنية قياسية إذا ما قيست بمسار مشروعات أخرى.
[email protected] لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات رابط دائم: