انتهى شهر رمضان بكل ما فيه من روحانيات، وبكل ما فيه من رغبة فى العطاء وفعل الخير ومساعدة المحتاجين، ويا ليت تقاليد العطاء وفعل الخير تستمر معنا بنفس القدر ونفس الحماس فيما بعد رمضان.
من الظواهر المميزة لممارسات التضامن الاجتماعى ومساعدة المحتاجين فى مصر المعاصرة ذلك الدور الذى تقوم به الجمعيات الأهلية فى تحفيز التطوع والعطاء من ناحية، والوصول إلى المحتاجين من ناحية أخرى، والقيام بدور الجسر الذى يربط الفئتين. كان العطاء فى الماضى علاقة مباشرة بين فاعل الخير وصاحب الحاجة. مازالت هذه العلاقة المباشرة قائمة، لكن المجتمع أصبح أكثر تعقيدا، وتنوعت الحاجات، وأصبح لقضية العطاء والمساعدة أبعاد تنموية، وليس فقط أبعاد خيرية، وأصبح كثير من الناس يرون أن تعليم المحتاجين صيد السمك، فيوفرون الغذاء لأنفسهم طوال العمر، أفضل من إعطائهم سمكة يتناولونها فى وجبة واحدة، يعودون بعدها لمعاناة الجوع. لم تعد الحاجات تقتصر على توفير الطعام والكساء، لكن أصبحت هناك حاجة لرعاية صحية، وتعليم، وفرصة عمل، ومسكن ملائم، وكلها احتياجات يصعب توفيرها عبر مساعدات يدفعها أهل الخير مباشرة إلى المحتاجين.
تعقد الحياة فى المجتمع، وتنوع الاحتياجات أوجد الحاجة لظهور مؤسسات خيرية كبرى تجمع التبرعات، وتوجهها للاستخدامات الأكثر نفعا للمحتاجين، آخذة فى الاعتبار ما يلزم من اعتبارات دينية واجتماعية وخيرية وتنموية. عرف المجتمع الإسلامى الأوقاف الخيرية التى خدمت قضايا التعليم والعلاج وتقديم المساعدات منذ قرون طويلة. وعرف المجتمع المصرى الحديث الجمعيات الخيرية التى أنشأت المشافى والمدارس ووزعت المساعدات منذ القرن التاسع عشر. وعلى الطريق للألفية الحالية ظهرت مجموعة كبيرة من الجمعيات الأهلية الحديثة، وهى مؤسسات كبرى، يغطى نطاق أعمالها جميع أنحاء البلاد، فى مجالات مختلفة، تخدم قضايا التضامن الاجتماعى والتنمية.
تتجاور فى المجتمع المصرى المعاصر أشكال تقديم الدعم المباشر التقليدية، والأشكال المؤسسية الأحدث ظهورا. لا توجد لدينا بيانات تبين حجم الطريقتين لتقديم المساعدة وفعل الخير، ولا توجد لدينا دراسات تقيس وتبحث فى مدى إقبال المصريين على التطوع بالمال والوقت، والدوافع التى تقف وراء ذلك، وهى مهمة مازال على الباحثين فى علوم المجتمع، والقائمين على سياسات التضامن الاجتماعى فى مصر تشجيعها.
تبين الملاحظة المباشرة لممارسة التطوع والعطاء فى المجتمع المصرى المعاصر أن هناك انتقالا من علاقات العطاء الشخصى المباشر، إلى العطاء المؤسسى غير المباشر، عبر مؤسسات تقوم بدور الوسيط بين فاعل الخير وصاحب الحاجة؛ وما تكاثر الجمعيات الأهلية العاملة فى هذا المجال، والإعلانات التليفزيونية الكثيفة المحفزة على التطوع سوى مؤشر على التحول من العطاء الشخصى إلى العطاء المؤسسي، وهو تطور حميد يستحق التشجيع والرعاية.
فى علاقة العطاء الشخصى هناك دور أكبر لفاعل الخير، فهو يقوم بنفسه باختيار مستحقى العطاء، وتوصيل العطاء لهم. فى علاقة العطاء المؤسسى يتم توكيل مؤسسة خيرية للقيام بهذه المهمة، فيما يقتصر دور فاعل الخير على اختيار المؤسسة الجديرة بعطائه، وما الحملات الإعلانية الكثيفة سوى مظهر للمنافسة بين المؤسسات الخيرية على كسب ثقة فاعلى الخير، وإقناعهم بجدارتها بأموالهم.
تتنافس المؤسسات لتأكيد أهمية الخدمة التى تقدمها، وجدارتها للفوز بدعم المانحين، وما إذا كان الإطعام أو المداواة أو فك سجن الغارمات أو توفير الأغطية أو بناء سقف أو مد وصلة مياه هو الأولى باهتمام فاعلى الخير. أما فيما يتعلق بالجدارة الخاصة بكل مؤسسة، فإشراف الجهة الحكومية المسئولة، أى وزارة التضامن الاجتماعي، يضمن توافر ما يلزم من شروط الكفاءة والنزاهة المالية والإدارية فى الجمعيات الأهلية؛ والترخيص الصادر عن الجهة الإدارية هو شهادة بتوافر المؤهلات اللازمة لفوز الجمعيات بثقة فاعلى الخير.
إشراف الجهة الإدارية شرط أساسى لا يمكن الاستغناء عنه، وعندما تقوم الجمعيات الأهلية بتوفير متطلبات الحصول على الترخيص فإنها تقوم بواجبها إزاء الدولة. يبقى على الجمعيات الأهلية القيام بواجبها إزاء فاعلى الخير الذين تعتمد على تطوعهم للقيام بأنشطتها، وعليها فى هذا المجال القيام بما هو أكثر من حملات إعلانية، فتقوم بإتاحة معلومات ضرورية عن تاريخ الجمعية؛ وأعضاء مجلس الأمناء ومجلس الإدارة، من هم، وما هى خلفياتهم؛ وموارد الجمعية ونفقاتها وميزانيتها؛ وأقترح تعديلا تشريعيا يلزم الجمعيات الأهلية بنشر هذه البيانات على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل.
أظن أن إتاحة هذه البيانات شديد الفائدة لزيادة الموارد المتاحة لتمويل العمل الأهلى ودعم المحتاجين؛ لكن القضية فى الحقيقة أكبر من تعزيز ثقة فاعلى الخير فى مؤسسات العمل الخيري. فالثقة فى الآخرين، أفرادا ومؤسسات، هى من أهم مكونات رأس المال الاجتماعى فى أى مجتمع، وكلما تعزز رأس المال الاجتماعي، زاد تماسك المجتمع، وزادت قدرته على الصمود فى مواجهة التحديات. لقد بينت دراسات عدة أن المجتمع المصرى يعانى نقصا فى الثقة المتبادلة بين مكونات المجتمع؛ ربما بسبب التاريخ الطويل للحكم الأجنبي. يعكس هذا النقص نفسه فى الصعوبات التى تواجه العمل الجماعي، بما يحرم المجتمع من الإسهامات التى يمكن أن تقوم بها هيئات تقوم على التعاون بين أعداد كبيرة، لا تربطهم صلة شخصية، لكن تربطهم الثقة المتبادلة؛ مثل الشركات المساهمة والأحزاب السياسية. تعزيز الثقة بين مكونات المجتمع هى جزء لا يتجزأ من عملية التنمية والتغيير الاجتماعي، من أجل تأهيل المجتمع للارتقاء على سلم التقدم والنهوض.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: