ألقى الرئيس السيسى خطابا لخص فيه الرؤية وبرنامج العمل لفترة الرئاسة الجديدة. قبل عشر سنوات ألقى الرئيس خطابا مماثلا بمناسبة انتخابه رئيسا لأول مرة. المقارنة بين الخطابين مفيدة لمراجعة وتقييم خبرة السنوات العشر السابقة، ولفهم تصورات الرئيس السيسى للمرحلة المقبلة.
كانت السنوات العشر الفاصلة بين الخطابين حافلة بالجهد والتحديات، والتطورات غير المتوقعة، والانعطافات الحادة فى الإقليم والعالم. عشر سنوات فترة ليست طويلة فى تاريخ الإقليم والعالم، لكن هذه السنوات العشر الأخيرة، كانت ثقيلة الوطأة، حتى تكاد تعادل خمسين سنة من سنوات التطور ذى الإيقاع المعتاد؛ فقد شهد العالم خلالها أوبئة، وحروبا، وأزمات اقتصادية؛نقلت النظام الدولى من العولمة الاقتصادية وإزالة الحدود والحواجز، إلى سياسات الحماية التجارية والتكتلات والعقوبات.
فى السنوات العشر الماضية اشتعلت كل جهات الجوار من حولنا بصراعات ممتدة، وصولا إلى حرب، ومحرقة بشرية غير مسبوقة تجرى على الجانب الآخر من حدودنا الشرقية، لتذكرنا بأن فلسطين قضية تستعصى على التجاهل، وتستعصى أيضا على الحل، وأننا نحتاج إلى رباطة جأش وبعد نظر نادرين حتى يمكننا تقديم دعم فعال لإخواننا فى فلسطين دون أن ينزلق بلدنا إلى أتون صراع له تكلفة باهظة، سبق لنا أن دفعنا أكثر كثيرا من نصيبنا العادل فيها.
خطاب التنصيب هذا العام جاء قصيرا مركزا. فبينما زاد خطاب التنصيب قبل عشر سنوات على الأربعة آلاف كلمة، جاء خطاب هذا العام فى أقل من ألف كلمة، ومع هذا فقد جاء واضحا شاملا، ضم أولويات محددة، وعرضا بإيجاز ووضوح لسياسات وتوجهات تم التفكير فيها واختيارها بعناية.
فى خطابه قبل عشر سنوات كان الرئيس السيسى يسعى لتطوير وتثبيت سردية سياسية تضفى المعنى وتستخلص الدروس من الأحداث العاصفة التى مرت بمصر خلال عواصف الربيع الخماسينية، فى نفس الوقت الذى عرض فيه على المواطنين طموحاته لبلد يستحق أن يكون كبيرا. قبل عشر سنوات تحدث الرئيس عن النظام الجمهورى، والدستور، واستقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه، وعن ثورتى يناير ويونيو، والقضاء على الإرهاب، والمشروعات الضخمة للقطاعين العام والخاص، ومحاولات استغلال الدين، والاستقطاب الطائفى والسياسى، والقوات المسلحة مصنع الرجال، وتحديث المنظومة الأمنية، وتنمية الصناعة والزارعة والثروة المعدنية وتدوير المخلفات والمشروعات الكبيرة والصغيرة، وإعادة تقسيم المحافظات، وتوفير الأسمدة ومديونية الفلاحين، والتعليم والصحة والتعليم الفنى، وتجديد الخطاب الدينى، ودور الأزهر والكنيسة، وتعزيز المؤسسات، ومحاربة الفساد، والمواطنة، والمرأة والشباب والبسطاء، وهوية مصر وعناصرها الفرعونية والإفريقية والمتوسطية والعربية الإسلامية، والأمن القومى العربى، وأمن الخليج، والسلام، وعلاقات مصر الدولية.
فى خطاب التنصيب الجديد ميز الرئيس بوضوح بين الرؤية وبرنامج العمل. مصر دولة حديثة ديمقراطية متقدمة. هذا هو المكون الأهم لرؤية الرئيس السيسى، وأول نقطة جاءت فى خطابه، فبدت وكأنها العنوان العريض الذى اختاره الرئيس لرؤيته للمرحلة المقبلة. استخدم الرئيس عبارات مشابهة خلال السنوات العشر الماضية فى مناسبات متفرقة، لكن هذه الصياغة بهذا الوضوح لم تكن موجودة فى خطاب التنصيب قبل عشر سنوات، ولهذا دلالاته.
انطلاقا من هذا العنوان والتوجه العريض عرض الرئيس عناصر رؤيته فى أربعة مكونات، هى التلازم بين الأمن والتنمية، وأهمية تماسك الكتلة الوطنية، والتأهب لمواجهة الصعوبات لأن طريق بناء الأوطان ليس مفروشا بالورد، والعمل بكل جهد وسرعة لأننا فى سباق مع الزمن فى عالم يتغير ويتقدم بسرعة ولا ينتظر أحدا. بعد هذا عرض الرئيس برنامج العمل، أو ما سماه مستهدفات العمل الوطنى، فجاءت فى سبع نقاط، مثلت عناوين عريضة لحزمة سياسات يتبناها الرئيس فى فترة الرئاسة الجديدة. حماية وصون أمن مصر القومى هو المستهدف الأول فى برنامج عمل الرئيس، بما يعكس وعيا بالمخاطر الشديدة المحيطة بأمن مصر القومى فى هذه المنطقة المضطربة. تلى ذلك مباشرة الحوار الوطنى، استكمالا وتعميقا وتنفيذا للتوصيات الصادرة عنه؛ بما يشير إلى أن مواصلة توسيع المجال العام، وتعظيم طاقة النظام السياسى على تمثيل التيارات المختلفة المكونة للمجتمع السياسى المصرى يحتل أولوية متقدمة فى المرحلة المقبلة، وهو توجه لم يظهر واضحا فى خطاب التنصيب قبل عشر سنوات. المستهدفان الثالث والرابع مرتبطان، ويمثلان جوهر سياسة إصلاح اقتصادى شاملة. ركز المستهدف الثالث على التنمية الاقتصادية، فجمع ولخص تفاصيل كثيرة ظهرت متفرقة فى خطاب التنصيب قبل عشر سنوات، ووضعها جميعا تحت عنوان تعظيم موارد مصر الاقتصادية وتعزيز صلابة ومرونة الاقتصاد المصرى، والتركيز على القطاعات الإنتاجية، وتعزيز دور القطاع الخاص؛ فيما يمكن اعتباره رسالة طمأنة لكل من دعا الدولة لعدم النكوص عن سياسات الإصلاح الاقتصادى بعد اجتياز عنق الزجاجة الخانق الذى مر به اقتصادنا مؤخرا. استكمالا لهذه النقطة،تناول المستهدف الرابع الإصلاح المؤسسى، مركزا على الانضباط المالى والحوكمة وترشيد الإنفاق واستدامة الدين العام. تدور المستهدفات الثلاثة الأخيرة حول البشر بمعان متعددة. تعظيم موارد مصر البشرية، عبر رفع جودة التعليم والرعاية الصحية هو المستهدف الخامس، فيما يمكن اعتباره تبنيا لمبدأ البشر قبل الحجر الذى كثيرا ما دعا إليه إصلاحيون مخلصون. يرتبط بهذا المستهدف السادس، والمتمثل فى دعم شبكات الأمان الاجتماعى، والموجه للبشر عند الضائقة والاحتياج للدعم. أخيرا يأتى المستهدف السابع والخاص بالتنمية العمرانية والقضاء على العشوائيات، وهى قضية إنسانية تخص البشر مثلما هى قضية تنمية اقتصادية. أظن أن لدينا بداية موفقة تبشر بست سنوات من النجاح.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: