رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

التقدم والتضامن

أصبح الإفطار الرمضانى السنوى الذى تنظمه مكتبة الإسكندرية كل عام فى بيت السنارى فى قلب القاهرة التاريخية مناسبة ثقافية ثرية. الطعام الشهى والنقاش الفكرى الجاد أمران لا يجتمعان بسهولة، غير أن النموذج الذى طوره الدكتور أحمد زايد رئيس مكتبة الإسكندرية نجح فى تحقيق ذلك، فله تحية تقدير. فى إفطار هذا العام دار النقاش حول قضية الهوية. قدم الحاضرون من المتخصصين والمثقفين رؤاهم لهذه القضية الشديدة الأهمية، والتى خصصت إدارة الحوار الوطنى أكثر من جلسة لمناقشتها، وها هى مكتبة الإسكندرية تطرح الأمر مرة أخرى، بما يؤكد انشغال المعنيين بالسياسة والثقافة والعمل العام بهذه القضية.

الآراء الثاقبة التى عبر عنها المشاركون فى الحوار شديدة التنوع، حتى بدت الهوية وكأنها الشىء وعكسه فى نفس الوقت. هناك ظواهر اجتماعية تثير قلق الكثيرين بشأن المسارات التى تأخذها الهوية المصرية. ينزعج الكثيرون من التنوع الشديد فى أساليب ومؤسسات التعليم والتنشئة، الذى يصل إلى درجة التنافر، وما ينتج عنه من تكون هويات متناقضة، تمثل خصما من رصيد الهوية الوطنية المصرية الجامعة. انصراف الجيل الأحدث عن وسائط ومنصات التنشئة والمعرفة الكلاسيكية، الكتاب والصحيفة ومحطات الإذاعة والتليفزيون، واعتماده على وسائط ومنصات تتكاثر على شبكة الإنترنت، بما فيها منصات أجنبية، بعيدا عن مؤسسات التوجيه والتنشئة المستقرة، هو سبب آخر للقلق على الهوية المصرية، أما الحل الذى يقترحه القلقون فيتمثل فى التدخل النشط من أجل الحفاظ على الهوية المصرية وتعزيزها. ينزعج آخرون من المطالبة بالتدخل القصدى لتشكيل الهوية، ويرون فى ذلك تناقضا مع حقيقة أن الهوية تتكون على مدى زمنى طويل، عبر التفاعل التلقائى الحر بين مكونات المجتمع المختلفة الطبقية والثقافية. يخشى هؤلاء من أن التدخل النشط قد يتسبب فى إفساد الآليات المجتمعية التلقائية لتشكل الهوية، ويفرض على المجتمع قيما سلطوية علوية مفروضة من أعلى تشوه الهوية ولا تنقذها.

الهوية لدى البعض هى الأصل الثابت الذى يضرب بجذورنا فى التاريخ والجغرافيا؛ وهى لدى البعض الآخر بناء دائم التجدد، نضيف له طوال الوقت مكونات ومعانى جديدة فى عملية تغير مستمر منفتح على ما يصلنا من إبداعات شعوب أخرى، وما تضيفه الأجيال الأحدث للموروث عن الأجداد. الهوية مفهوم محافظ يعلى قيمة الحفاظ على المتوارث من ثقافة وعادات وطرائق فى السلوك، وهى أيضا عملية ديناميكية للتطوير والتكيف والإضافة المتواصلة للموروث، بل وللتخلى النشط والفعال عن الجزء من هذا الموروث الذى قد يعوق تفاعلنا مع المجتمع المعاصر.

الهوية ظاهرة موضوعية تعكس الثقافة والتاريخ الجماعى للأمة، المتراكم عبر قرون طويلة. لكن الهوية أيضا هى خبرة وممارسة ذاتية، فهناك الخبرات والتاريخ المشترك للأمة، وهناك أيضا أفراد ينتقون من هذا التاريخ أحداثا يعتبرونها أكثر أهمية، يبنون عليها تصوراتهم وفهمهم، فينتجون تفسيرات متجددة لوقائع التاريخ، الذى يبقى مفتوحا على تفسيرات عدة، تتباين بتباين الأفراد. الهوية بهذا المعنى هى مفهوم ذاتى يتمحور حول إدراك الفرد، وحمولات المشاعر العواطف المتنوعة التى تثيرها المدركات والتفسيرات الذاتية التى يتبناها الفرد للموروث من التاريخ والثقافة، وللمستحدث والوافد منها.

الهوية هى كل هذه المفاهيم والتفسيرات المتنوعة رغم تناقضها. فالمصرى الذى يعيش اليوم يشبه المصرى الذى عاش قبل مائة عام فى أشياء كثيرة، بما يؤكد الثبات والاستمرارية؛ ويختلف عنه فى أشياء كثيرة أخرى بما يؤكد التغير والانقطاع. يتشابه عموم المصريين فى عادات وقيم وسلوكيات ومشاعر كثيرة، بما يؤكد الطبيعة الموضوعية والجمعية للهوية. هناك أيضا خصائص فريدة لفئات وأفراد لديهم خبرات متميزة، أو قدرات ذاتية ومواهب خاصة تسمح لهم بإضافة معان وأبعاد جديدة على المعتاد والموروث. إلى هذه الفئة الأخيرة ينتمى الفنانون والمبدعون القادرون على إضافة وإضفاء أبعاد ومشاعر جديدة للهوية، وما أضافته أم كلثوم والشيخ محمد رفعت ونجيب محفوظ للهوية المصرية أثراها وغير فيها الكثير.

من غير الممكن تجنب التدخل لتشكيل الهوية، فالدولة الحديثة والمثقفون هم كائنات تدخلية بامتياز، حتى عندما لا يقصدون ذلك. الهوية المصرية المعاصرة هى محصلة لتدخلات، كثير منها حميد. ألم يسهم رفاعة الطهطاوى صاحب المرشد الأمين للبنات والبنين فى تشكيل هوية أجيال من المصريين. ألم تسهم إصلاحات على مبارك التعليمية فى تشكيل هوية المصريين منذ الربع الأخير فى القرن التاسع عشر. ألم يعاد تشكيل الهوية المصرية بعد فتح المدارس لتعليم البنات، وبعد أن أطلق قاسم أمين دعوته لتحرير المرأة.

لا أميل للمبالغة فى الجزع من أثر التدخلات والمؤثرات على الهوية الوطنية، فالآليات التلقائية طويلة الأمد لتشكيل الهوية أكثر قوة بكثير من أى تدخل منفرد، ولديها القدرة على هضم المؤثرات المستجدة، وإعادة دمجها فى عناصر مختارة من السبيكة الموروثة، لتنتج هوية ثابتة وراسخة ومتغيرة ومتجددة أيضا، ولنا عبرة فى شعوب روسيا وإيران التى حافظت على هويتها الوطنية وطورتها رغم تعرضها لأكثر محاولات إعادة تشكيل الهوية تطرفا واندفاعا.

ستبقى الهوية راسخة، وستواصل التغير أيضا، وسيحدث ذلك بشكل آمن طالما تطورت الهوية فى اتجاه يزيد من قدرة المجتمع على التقدم، بمعنى القدرة على إنتاج معرفة وابتكار وقوة وثروة وحرية وعدالة أكثر؛ وكلما تطورت الهوية فى اتجاه يزيد من قدرة أبناء المجتمع على التضامن فيما بينهم رغم اختلافهم على تعزيز طاقات التقدم والتضامن فى الهوية والمجتمع المصرى، فلتركز التدخلات وجهود الإصلاح.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: