تعتبر الدروس الحسنية، فى المغرب،امتدادا لإرث تاريخى بدأ فى العهد المرابطى والموحدى، حيث كان يطلق عليها آنذاك مجالس الفقهاء، وتم تغيير اسمها الى المجالس العلمية فى العهد المرينى ثم السعدى. فى العهد العلوى احتضن ملوك الدولة العلوية هذه المجالس العلمية وشجعوها، وأمروا بفتح باب المناقشة بين العلماء. ازدهرت هذه المجالس فى عهد السلاطين محمد الثالث وسليمان والحسن الأول خلال اشهر رجب وشعبان ورمضان.
فى عهد الملك محمد الخامس، اعتمد إحياء الدروس العلمية الحديثة فى كل شهر رمضان وكانت تحضرها الهيئة المخزنية ونخبة جليلة من علماء المغرب. تم التوقف على العمل بهذه الدروس فى عهد الحماية، لكن بعد حصول المغرب على استقلاله، تمت العودة إلى تنظيمها، بالشكل الذى هى عليه اليوم، فى بداية عهد الملك الحسن الثانى.
تلقى الدروس الحسنية الرمضانية فى حضرة جلالة الملك، ويحضرها كوكبة من العلماء والمشايخ من داخل المملكة، وصفوة من أقطاب العلم والفكر الإسلامى الوافدين من شتى بلدان العالم الإسلامى، الذين يتم استدعاؤهم من طرف وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، وتتم استضافتهم من طرف ملك المغرب.
تتميز مجالس الدروس الحسنية بتنوع مواضيعها التى تتناول علوم القرآن والسنة، والتى تشكل فى مجموعها ثروة فكرية إسلامية. مع مرور أكثر من ستين عاما على انطلاقة الدروس الحسنية، فقد أصبح لها إشعاع دولى وإقليمى سمح بنقل صورة مشرفة للنموذج الدينى المغربى الذى يتميز بطابعه السمح،الوسطى والمعتدل.
ما يميز الدروس الحسنية هو فتحها فى وجه جميع العلماء والفقهاء بغض النظر عن مذاهبهم وتوجهاتهم الفكرية، سنية كانت أم شيعية، وكذا أمام مشايخ الصوفية. هذا التنوع يعكس انفتاح المغرب على كل المشارب العلمية والفقهية، والرغبة فى بناء الجسور بين المختلفين والتوفيق بين المتناقضين. من هنا تم الحرص على إلقاء هذه الدروس من طرف علماء مغاربة وعلماء من مختلف بقاع العالم (الشرق الأوسط، إفريقيا، أوروبا، أمريكا). لم يقتصر الأمر على المذاهب والفرق الدينية الإسلامية فقط، بل امتد الأمر لتخترق هذه الدروس الخلافات الدولية الكبرى. شهد أحد الدروس التى جرت فى عز مرحلة الحرب الباردة مشاركة مقرئ قادم من الاتحاد السوفيتى، فقد افتتح الدرس بترتيل آيات من القرآن، بينما ألقى الدرس محاضر أمريكي.
بهذا التنوع أصبحت الدروس الحسنية ذات صبغة عالمية، باعتبارها مجالس علمية فريدة من نوعها فى العالم الإسلامى، حيث وصل صيتها إلى شتى بقاع العالم ويتم نقلها عبر القنوات الفضائية، كما تتم ترجمتها الى لغات عدة. ترسم الدروس الحسنية مشهدا رمضانيا يجعل واحدا من العلماء المدعوين يعتلى المنبر قصد إلقاء الدرس المقرر بحضرة الملك والأمراء والمستشارين، إلى جانب الوزراء ورئيسى مجلسى البرلمان وكبار ضباط الجيش، فضلا عن عدد من الشخصيات العلمية والثقافية وممثلى البعثات الدبلوماسية للدول الإسلامية التى عادة ما توجه لها الدعوة لحضور هذه الدروس.
ما يزيد من تفرد الدروس الحسنية الرمضانية، ومن تفرد النموذج الدينى المغربى، أيضا، هو إشراك بعض العالمات لإلقاء بعض المحاضرات خلال الدروس الحسنية فى حضرة ملك البلاد (امير المؤمنين)، حيث يجلس الملك بتواضع على الأرض، وتعتلى المرأة المنبر، وتقوم بإلقاء الدرس الدينى أمام الملك وكبار الفقهاء والعلماء من المغرب والعالم الاسلامى. فى هذا الاعتلاء للمنبر، إشارة إلى الدور المحورى للمرأة فى الإسلام، وكذا الرغبة فى الارتقاء بدورها داخل المجتمع المغربى، وأيضا، اعتراف بقدرات المرأة المغربية على الإدلاء بمعارفها فى مجال الفقه والعلوم الشرعية.
لقد أصبحت الدروس الحسنية جزءا من أجواء رمضان فى المغرب، والتى لا يحلو هذا الشهر الفضيل بدونها. وهى جزء من الطقوس الملكية الراسخة، بحيث أصبحت نقطة مضيئة للقاء علماء الامة وفقهائها، وفرصة سنوية للتواصل والتقارب وترسيخ لغة الحوار بين مختلف ألوان الطيف الإسلامى. هى، أيضا، محطة فريدة للنقاش الرصين وتدارس شئون الأمة الإسلامية. ولعل حرص ملوك المغرب على الحفاظ على هذه السنة الحميدة نابع من حرصهم على الحفاظ على هوية المغرب الدينية، ونشر المعانى السامية للإسلام الوسطى ومنهجه القويم الذى لا يكتفى بالنقل، انما يعطى للعقل منزلته فى النقد والتفكير والتمعن والتفسير، دون تطرف أو غلو، وتمتين الروابط والوشائج بين علماء المسلمين كافة.
لمزيد من مقالات وفاء صندى رابط دائم: