فرضت الحكومة فى هايتى الأحكام العرفية فى محاولة للسيطرة على العنف المتفشى فى البلاد. العنف فى هايتى ليس عنفا تخوضه جماعات عرقية أو حركات سياسية مسلحة، لكنه عنف يمارسه ائتلاف لعصابات الجريمة المنظمة بقيادة ضابط شرطة سابق. هاجم العصاة مراكز الشرطة، واقتحموا السجون، وأطلقوا سراح الآلاف من المحكومين، مطالبين باستقالة رئيس الوزراء. حدث ذلك بينما كان رئيس الوزراء فى جولة خارجية بغرض تشكيل قوة دولية تساعد فى حفظ الأمن فى بلاده بعد أن عجزت الشرطة وقوات الحكومة عن فرض النظام، فيما تحاول العصابات المسلحة السيطرة على المطار لمنع رئيس الوزراء من العودة إلى البلاد. فى الشرق الأوسط لدينا عديد الحالات لميليشيات أصبحت أقوى من الدولة، لكن ربما تكون هايتى هى أول حالة لدولة تقع فى يد عصابات إجرامية. ليس فى محاولة فهم ما يجرى فى هايتى ابتعادا عن مشاغل وهموم منطقتنا المبتلاة بالكثير من نماذج الدول الفاشلة، فهايتى تقدم لنا فرصة للتعرف على نموذج إضافى لفشل الدول، ولعل فى ذلك تعزيزا لمعرفتنا بالكيفية التى تفشل بها الدول، فندعم قدرتنا على تجنب الفشل وإنقاذ المنكوبين من الجيران الذين وقعوا فيه.
الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى هايتى بالغة السوء، وتبين مقارنتها بجارتها جمهورية الدومينكان المجاورة مدى التدهور الحادث فى هايتى مقارنة بدولة جارة تشاركها الجغرافيا والموارد. يتقاسم البلدان واحدة من أكبر جزر البحر الكاريبى، ويفصلهما خط حدود سياسى تحكمى، وليس مانعا طبيعيا، يبلغ طوله 360 كيلومترا. البلدان متقاربان جدا فى عدد السكان، وإن كانت مساحة الدومينكان مرة ونصف أكبر من مساحة هايتي. إلى هنا تنتهى أوجه الشبه بين البلدين. فهايتى من أفقر دول العالم، متوسط دخل الفرد فيها، وكذلك عدد السيارات والشاحنات وأصحاب الوظائف المنتظمةأقل من خمسهم فى الدومينكان. فى هايتى سدس أطوال الطرق المرصوفة فى الدومينكان، وسبع الحاصلين على تعليم جامعى، وثمن عدد الأطباء، وسبع متوسط الإنفاق على الرعاية الصحية. فى الدومينكان 33 ضعف عدد أجهزة التليفزيون الموجودة فى هايتى، وتولد كهرباء أكثر بما مقداره24 مرة، وتصدر منتجات قيمتها 27 ضعفا.
يمكن الاستمرار فى هذه المقارنة إلى ما لا نهاية، فمتلازمة الفقر والتخلف تضرب كل أركان الحياة فى هايتي. هذه الدرجة المخيفة من الفقر والتخلف ليست قدرا أو نتيجة لظواهر طبيعية، لكنها فى معظمها من صنع الإنسان. المفارقة هى أن هايتى الحالية كانت أغنى مستعمرة فى العالم الجديد، فقد كان فيها ثلثا الاستثمارات الفرنسية فى العالم الخارجى حتى استقلالها عن فرنسا عام 1804، سابقة بذلك كل دول أمريكا اللاتينية الأخرى. خاضت هايتى حربا طويلة منهكة ضد الاستعمار الفرنسى من أجل الاستقلال، ولكنها رغم كل ذلك الاستنزاف كانت أقوى وأغنى من الدومينكان، حتى أنها قامت باحتلال وضم الدومينكان لأكثر من عشرين عاما بدءا من سنة 1822. استمر تفوق هايتى حتى مطلع القرن العشرين، عندما بدأت تتراجع، ولا بد أن هناك أسبابا لهذا الانحدار.
الحدود ليست مجرد خط على الخريطة؛ إنها العلامات التى تعين حدود مجال سياسى يدار ذاتيا، تتحكم فيه نخب الحكم والإدارة، وهى المساحة الخاصة التى يتيحها النظام الدولى لنخب الحكم لإثبات جدارتها. خط الحدود الفاصل بين هايتى والدومينكان سمح بتأسيس نظامين مختلفين للإدارة والحكم، فكان الفشل من نصيب هايتى، بينما نجحت الدومينكان. إنه نفس ما فعله خط الحدود الذى فصل ألمانيا الغربية والشرقية لأكثر من أربعين سنة، أو خط الحدود الذى مازال يفصل بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية.
فتش عن نخب السياسة، فلا يوجد بلد فاشل لكن توجد نخب فاشلة. استقلال هايتى المبكر وضع مصير البلاد فى يد نخب محلية أساءت التصرف فى الاستقلال الذى فازت به.لم يكن استقلال هايتى ثورة وطنية فقط، بل ثورة اجتماعية أيضا. 85% من سكان هايتى كانوا من العبيد فى زمن الاستعمار الفرنسي. ثار العبيد مطالبين بالحرية لأنفسهم والاستقلال لوطنهم، فتم إنهاء العبودية وفازت هايتى بالاستقلال، لكن من قال إن الثورة هى ضمانة النجاح؟ آلاف من الأمريكيين الأفارقة هاجروا إلى هايتى، وطن العبيد المحررين، فصدمهم التعسف والفساد والاستبداد وعدم الاستقرار، فاختار أغلبهم العودة من حيث أتوا، رغم العنصرية والعبودية التى فروا منها.
الصراعات بين أجنحة النخبة فى هايتى عاتية، فقد وقع فيها 32 انقلابا منذ حصلت على الاستقلال، بمعدل انقلاب جديد كل أقل من سبع سنوات.الفساد فى هايتى يضع البلد فى الترتيب 171 بين 180 دولة على مؤشر الشفافية العالمي. فشلت النخب فى هايتى فى التوافق حول نظام سياسى يحقق تمثيل المصالح المختلفة ويضمن التداول السلمى للسلطة. تم اغتيال رئيس الجمهورية فى عام 2021، ومن وقتها لا يوجد فى البلاد لا رئيس ولا برلمان منتخب. فراغ السلطة كان مواتيا لنمو العصابات والأنشطة الإجرامية، وصولا للحظة تسعى العصابات فيها للسيطرة على الحكم.
لقرنين من الزمان تصرفت أجنحة النخبة السياسية المتصارعة فى هايتى كما لو كانت عصابات تتكالب على المنافع. الجشع والفساد والتكالب على الغنائم نزع الاحترام والشرعية عن النخب السياسية. كفت الإدارة والسياسة والحكم عن أن تكون أنشطة سامية تحكمها قواعد وأخلاقيات ابتغاء للمصلحة العامة، فتجرأت عصابات الإجرام على السلطة. ما يجرى فى هايتى هو أسوأ ما يمكن أن يجلبه سوء الإدارة والفساد على بلد كان واعدا يوما ما.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: