فى مشاهد وحشية لا يكاد ينساها الضمير الإنسانى حتى تتكرر مرة أخرى، أطلق الجنود الإسرائيليون النار على حشود من الفلسطينيين ممن اضطرهم الجوع والعطش، جراء الحرب، الى البحث عن طعام، حتى لو كان ثمنه الموت. فمع وصول قافلة المساعدات، وفى نفس اللحظة التى تأمل المدنيون خيرا فى الحصول على لقمة خبز، بدأت الدبابات الإسرائيلية بإطلاق النار عليهم، وتلاحقهم وهم يلوذون بالفرار مما أدى الى مقتل مايزيد على 100 شخص واصابة 800 آخرين، فى شمالى القطاع. أمام هذه المجازر التى ترتكب فى حق الفلسطينيين العزل، لا يجد المجتمع الدولى من ردة فعل سوى التنديد والادانة ومطالبة مجلس الامن التابع للأمم المتحدة بالتحرك لحث اسرائيل على وقف القتال، وضمان وصول المساعدات الإنسانية، وتجنب كارثة إنسانية أكثر خطورة. والحقيقة أن ما يشهده قطاع غزة منذ بداية هذه الحرب هو كارثة بكل المقاييس، وهو حرب ضد الإنسانية وضد القوانين والمواثيق الدولية، وحرب ضد قيم السلام والعيش المشترك، من دون أى محاسبة أو ملاحقة قانونية لمرتكبيها.
حرب بدأت قبل 76 عاما، ولم تضع اوزارها بعد. حرب تستهدف شعبا بأكمله، تريد تجويعه وتهجيره وطمس هويته. لكن يأبى هذا الشعب الا أن يظل صامدا، مقاوما ومؤمنا بعدالة قضيته. وأمام هذا الصمود والايمان، لم يجد العدو المحتل من حل سوى ارتكاب المجازر واحدة تلو الأخرى، معتقدا انه بهذه الوحشية سوف يثنى شعبا، ولد من رحم المعاناة، عن الدفاع عن ارضه وكرامته، حتى لو كان الثمن المزيد من الأرواح والدمار.
فى الفترة بين 1936 و1948، ارتكبت العصابات الصهيونية نحو 75 مجزرة، راح ضحيتها أكثر من 5 آلاف شهيد فلسطينى، فضلا عن إصابة الآلاف من المدنيين العزل فى مختلف القرى والمدن. ورغم كل المحاولات الإسرائيلية لإخفاء وطمس حقيقية تلك المجازر، فإن المقابر الجماعية التى تم اكتشافها لاحقا والتى كانت تضم مئات الرفات والهياكل العظمية كانت وستبقى شاهدة على هذه الوحشية. وفى أكتوبر 1953، طوقت وحدتان عسكريتان من قوات الاحتلال الصهيونى قرية قبية الواقعة فى الضفة الغربية غربى مدينة رام الله. بعد قصف مدفعى مكثف استهدف المساكن، تم اطلاق النار بصورة عشوائية على المدنيين العزل، وتم وضع شحنات متفجرة حول بعض المنازل، وإطلاق النار على كل من حاول الفرار. كانت الحصيلة استشهاد 67 شخصا، بينهم نساء وأطفال.
بعدها بثلاث سنوات، ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلى مجزرتين بحق اللاجئين الفلسطينيين فى مخيم خان يونس جنوبى قطاع غزة، مما أدى فى اول مجزرة الى مقتل 250 شخصا، تم تجميع بعضهم فى الساحات العامة وتم اطلاق النار عليهم، بعد أن قامت قواته بتجميع بعضهم فى الساحات العامة وإطلاق وابل من الرصاص عليهم. وبعد تسعة أيام من المجزرة الأولى، نفذت وحدة من الجيش مجزرة وحشية أُخرى، راح ضحيتها نحو 275 شخصا. وفى أبريل 2002، اقتحمت آلاف القوات الصهيونية مدينة جنين بحجة القضاء على المقاومة، وقامت حينها بارتكاب أعمال القتل العشوائى، واستخدام الدروع البشرية، ومنع وصول الغذاء والدواء والمساعدات الطبية إلى أهالى المدينة. وقد استشهد فى هذه المجزرة أكثر من 500 فلسطينى، معظمهم من المدنيين العزل. بالإضافة الى هذه المجازر الجماعية، تم ارتكاب العديد من الجرائم التى لم تتوقف يوما، والتى كان الهدف منها اذلال الفلسطينيين وتبديد احلامهم بإقامة وطن حر ومستقل. وعلى نفس السياسة، وبنفس الغطرسة، استمر جيش الاحتلال فى سلوكه الهمجى معتمدا فى ذلك على الصمت الدولى الذى دائما ما يجد له اعذارا ومبررات يغطى بها على مجازره ووحشيته. لان العالم تعود الصمت امام غطرسة القوات الإسرائيلية فإن هذه الأخيرة تعتبر نفسها فوق القانون الدولى وتعتبر نفسها غير معنية بالالتزام بالقيم الإنسانية.
إسرائيل أسست وجودها على القتل الجماعى وتعودت هتك أرض وعرض الفلسطينيين. والعالم تعود الصمت على هذه المجازر، وفى احسن الحالات التنديد والادانة. لو وجدت اسرائيل من يسائلها ويحاسبها منذ أول مجزرة ارتكبتها، ما كانت تمادت وتسلطت وقتّلت وشردت شعبا بالكامل من أجل الوصول الى أهدافها فى تصفيته وتصفية قضيته. ولو لم يتعود العالم على الصمت أمام جرائمها، لما كان فى كل مرة يبحث لها عن أعذار فارغة.
مسئولية ما يقع فى غزة من وحشية مسئولية مشتركة بين عدو حدود طموحه فى القتل والترويع والتوسع لا تنتهي. وبين عالم اختار، منذ زمن بعيد، ان يتخذ الصمت موقفا، وان يصطف الى جانب الظالم مادام هو الذى يمثل السلطة والقوة.
لمزيد من مقالات وفاء صندى رابط دائم: