رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

فخ الدور المزدوج

تمر القضية الفلسطينية بمنعطف خطير. فبينما يتعرض الفلسطينيون فى غزة لأكثر الاعتداءات همجية منذ بدء الصراع العربى الإسرائيلى، تكثر الجهود ويتواتر الحديث عن إنشاء الدولة الفلسطينية‪،‬ باعتباره البديل الوحيد لدورات العنف المتكررة. لا أحد يستطيع أن يجزم ما إذا كانت جهود إنشاء الدولة الفلسطينية، ستثمر هذه المرة، فهناك الكثير من العقبات التى يجب اجتيازها قبل أن تتهيأ الظروف لذلك. المطالبة بإصلاح السلطة الفلسطينية هو من ضمن العقبات التى يضعها الأمريكيون والإسرائيليون على الطريق للدولة الفلسطينية، فالسلطة الفلسطينية فى رأيهم قد لحق بها وهن وفساد يجب إصلاحهما قبل أن تصبح السلطة شريكا فعالا يمكنه تولى الحكم فى قطاع غزة بعد انتهاء الحرب.

لقد تم حشر الجيل الأول من منظمات المقاومة الفلسطينية ـ فى أصعب فخ يمكن لحركة تحرر وطنى أن تجد نفسها فيه. عن فخ الدور المزدوج أتحدث. فقبل اكتمال التحرر من الاستعمار، وجدت منظمات المقاومة الفلسطينية ـ خاصة حركة فتح ـ نفسها فى موقف يفرض عليها تشكيل سلطة فلسطينية على أراض مازالت إسرائيل تحتلها. تخلت إسرائيل للسلطة الناشئة عن صلاحيات قليلة، فى مجالات إدارة الاقتصاد والشئون المدنية، فيما احتفظت لنفسها بالصلاحيات الأكثر خطورة المتعلقة بالأمن والسيادة. محصلة هذا التقسيم غير العادل للصلاحيات هو حرمان السلطة الوطنية الفلسطينية من الأدوات والوسائل اللازمة للنجاح فى إدارة الاقتصاد والشئون المدنية، فيما احتفظت إسرائيل لنفسها بوسائل إفشال جهود السلطة، وهى الوسائل التى لم تقصر فى استخدامها.

كان على السلطة الفلسطينية منذ توقيع اتفاق أوسلو أن تتولى المسئولية عن الإدارة والتنمية فى مناطقها، بينما تواصل فى نفس الوقت الكفاح من أجل استكمال التحرر الوطنى وتحقيق الاستقلال؛ أى أنه كان عليها أن تلعب دور الدولة التنموية ودور حركة التحرر الوطنى فى الوقت نفسه. الجمع بين هذين الدورين هو تحد شديد الصعوبة، خاصة بعد أن تم حرمان السلطة من الأدوات والوسائل اللازمة للقيام بهما، فلم تصبح دولة مؤهلة لتحمل أعباء التنمية، وإن تم إلزامها بأعباء التصرف المنضبط وفقا للقواعد القانونية المنظمة لعلاقات الدول، فى الوقت نفسه فإنها لم تعد حركة تحرر وطنى فعالة بعد أن تم تجريدها من حرية الحركة والمناورة وإمكانية استخدام جميع وسائل الضغط ضد الاحتلال. حصيلة هذا الوضع الشاذ معروفة لنا بعد أن عشنا معه لما يقرب من ثلاثين سنة، فقد أخفقت السلطة الفلسطينية فى الإدارة والتنمية، كما أخفقت فى استكمال التحرر الوطنى، وأصاب مؤسساتها وكوادرها بعض الكسل والترهل، وفقدت تأييدا شعبيا ثمينا، وأصبح إصلاحها ضروريا لأنها مازالت الوحيدة القادرة على القيام بأدوار لا يستطيع أحد آخر القيام بها.

فخ الدور المزدوج الذى دخلته السلطة الفلسطينية ليس غريبا عنا، فنحن فى مصر لدينا فى تاريخنا الحديث خبرة مشابهة. حدث هذا عندما قبل حزب الوفد ـ حزب الحركة الوطنية المصرية ـ التصدى لمهمة الإدارة والحكم، بينما كان الاستعمار الإنجليزى مازال موجودا ومسيطرا داخل البلاد، ممسكا بخيوط اللعبة السياسية يحركها كيفما يشاء. قاد الوفد ثورة 1919 التى أسفرت عن استقلال شكلى ونظام حكم شبه دستوري. اختار الوفد المشاركة فى اللعبة السياسية الناشئة، فيما يواصل النضال من أجل استكمال الاستقلال. حمل حزب الوفد نفسه بمسئولية مزدوجة، فمن ناحية تحمل المسئولية عن الاقتصاد والخدمات والإدارة والمرافق العامة، ومن ناحية أخرى واصل تحمل مسئولية الكفاح من أجل تجاوز مرحلة الاستقلال المنقوص.

لم ينجح الوفد لا فى تحقيق التنمية ولا استكمال الاستقلال. خلال ثمانية وعشرين عاما بين عامى 1924، عندما تم إجراء أول انتخابات وفقا لدستور 1923 وحتى انتهاء النظام الملكى فى عام 1952، لم يشكل حزب الوفد الحكومة إلا لأقل من ثمانى سنوات متقطعة، رغم أنه فاز بالأغلبية فى كل انتخابات نزيهة جرى تنظيمها فى أثناء هذه الفترة. تفاوضت حكومات الوفد مع إنجلترا من أجل استكمال الاستقلال، لكن الانجليز راوغوا، واضطر الوفد فى النهاية إلى إلغاء المعاهدة التى وقعها معهم، ودعم الكفاح المسلح، فأوجد موجة ثورية استفادت منها جماعات راديكالية إخوانية وشيوعية، وانتهى الأمر بالإطاحة بالنظام كله على يد الضباط الأحرار فى يوليو 1952، فخسرنا الدستور والانتخابات والبرلمان التى أصبحت أشياء سيئة السمعة بسبب ارتباطها بإخفاقات الحقبة السابقة.

التحرر الوطنى هو مهمة تطهرية، يقدم فيها المناضلون التضحيات، دون مقابل، ودون تحقيق أى مكاسب خاصة. التحرر الوطنى هو نشاط يتسم بدرجة عالية من الالتزام المبدئى والأخلاقى. السلطة والحكم، على الجانب الآخر، هى عملية سياسية، فيها الكثير من التفاوض والمساومة وشراء التأييد والسعى وراء المكسب المادى والجاه. قديما قالوا إنه لا أخلاق فى السياسة، فممارسة السلطة قد تنتج فى أحيان كثيرة سلوكيات فاسدة، خاصة فى بلاد نامية محرومة من المؤسسات والثقافة والتقاليد السياسية الراسخة. هذا هو ما حدث فى مصر مع حزب الوفد، وحدث أيضا مع السلطة الوطنية الفلسطينية، بكل ما لهذا من تداعيات على الشرعية، والقدرة على مواجهة تحديات التنمية والتحرر.

من الأفضل لحركات التحرر الوطنى مقاومة إغراءات المشاركة فى الحكم قبل تحقيق الاستقلال. لكن الأمر ليس دائما بهذه السهولة، فقد تفرض أوضاعا معينة نفسها، وتجبر حركات التحرر على اختيارات إشكالية، كما حدث مع حركة فتح الفلسطينية وحزب الوفد المصرى، ولا مفر من التحلى بأقصى درجات الحكمة والانضباط والنزاهة عند خوض مغامرة كهذه.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: