رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

طرق متعددة لمقدمة الصفوف

العالم الذى نعيش فيه مقسوم بين فريقين: الضعفاء والأقوياء.احتلت الدول الرأسمالية الديمقراطية العريقة فى أوروبا وأمريكا موقعها ضمن طائفة الأقوياء منذ زمن طويل. لكن هناك من بين الدول الضعيفة الفقيرة من استطاع أن يجد لنفسه مكانا فى قائمة الأقوياء. هؤلاء هم القادمون من الخلف، الذين استطاعوا عبور فجوة القوة، فانتقلوا من عالم الضعف والتهميش الدولى إلى عالم القوة والمكانة. لا توجد وصفة واحدة لعبور فجوة القوة، فالعالم الراهن يقدم لنا عدة نماذج للاجتياز الناجح لهذه الفجوة. التحدى، والاندماج، والحجم الفائق هى نماذج لتحول دول من عالمنا الثالث، فانتقلت إلى مصاف الأقوياء.

حجزت كوريا الشمالية وإيران مكانا لأخبارها فى صدر الصفحات الأولى لصحف العالم. ليس بإمكان أحد تجاهل ما تفعله الحكومة فى البلدين، فتأثير كل منهما فى محيطه كبير جدا. ليس لإيران أو كوريا الشمالية ميزات كبيرة يضيفونها للجيران، لكن لديهم قدرة هائلة على إلحاق الأذى بهم. ركز البلدان على صنع أدوات ووسائل الحرب، واستثمرا الكثير فى تطويرها، فأصبحا قوتين عسكريتين لهما هيبة بين الدول. استثمر البلدان كثيرا فى تطوير وصناعة صواريخ تصل بالدمار إلى عواصم الخصوم البعيدة، فنجحا فى وضع أقمار صناعية فى مدارات حول الكوكب، لأغراض استعراض القوة والتجسس والبحث العلمى أيضا. لإيران بصمة فى صناعة الطائرات المسيرة، وأصبح لطائراتها المسيرة زبائن دائمون فى روسيا وغيرها. تشيع كوريا الشمالية الفزع فى الجوار بتجاربها الصاروخية المتكررة، فيما أنشأت إيران شبكة ميليشيات مذهبية واسعة، جيدة التسليح والتدريب، تستخدمها للسيطرة على دول الإقليم واحدة بعد الأخرى. كوريا الشمالية قوة نووية غير معترف بها، وإيران تقف على العتبة النووية بعد أن امتلكت أسرار القنبلة. يحقق السلاح النووى لكوريا الشمالية حصانة شبه كاملة، وهو ما تقترب إيران بسرعة من الفوز به.

التحدى هو النموذج الذى اتبعته إيران وكوريا الشمالية للوصول إلى الصف الأول. تحدى البلدان الولايات المتحدة، القوة العظمى المتربعة على قمة النظام الدولى، فوضعتهما أمريكا على كل قائمة للدول المارقة أصدرتها. لم يضعف العداء الأمريكى من عزيمة البلدين، بل قبلا التحدى، ورضيا بدفع الثمن. تحمل البلدان حصارا وعقوبات وعزلة فرضتها أمريكا والغرب، لكنهما وصلا فى النهاية إلى ما أرادا. لم يكن النجاح ليتحقق دون خلق الأوضاع الداخلية المناسبة. النهوض بكل المجتمع ليس ضروريا فى هذا النموذج، إذ يكفى التركيز على مؤسسات إنتاج واستخدام السلاح، بالإضافة إلى فرض انضباط حديدى على باقى المجتمع، باستخدام أذرع عسكرية وأمنية وأيديولوجية ذات صلاحيات غير محدودة. هذه تكلفة باهظة جدا، وإن كانت بعض البلاد تدفع تكلفة قريبة من هذا دون أن تحقق أى تقدم.

الاندماج هو النموذج الثانى لدول حجزت مكانها فى الصف الأول قادمة من الصفوف الخلفية. أتحدث عن كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة. هذه دول اختارت الاندماج بشكل كامل فى النظام الدولى، اقتصاديا وسياسيا، فنجحت فى اقتناص كل الفرص التى يتيحها النظام الدولى لتحقيق تقدم سريع نقلها إلى مصاف الدول المتقدمة. سياسيا وأمنيا يعد هؤلاء حلفاء موثوقين للولايات المتحدة والمعسكر الغربى المهيمن، وإن كانت سنغافورة تمارس بعض التوازن. منذ اليوم الأول وهذه الدول تنتج من أجل التصدير إلى أسواق خارجية تتمتع بالوفرة وارتفاع الطلب، فاستفادت من هذا لتعويض صغر حجم أسواقها الداخلية وفقرها. بدأت مسيرة التنمية المعتمدة على الصادرات فى هذه البلاد بإنتاج سلع تقليدية، خاصة الملابس والمنسوجات، لكنها انتقلت بسرعة لإنتاج سلع عالية التكنولوجيا، الأمر الذى أصبح ممكنا نتيجة للاستثمارات الهائلة والدعم الكبير الذى قدمته للدولة للابتكار والتطوير التكنولوجى، فأصبحت تايوان أحد أكبر منتجى الرقائق الإلكترونية فى العالم، فيما أصبحت كوريا الجنوبية أكبر منتجى الأجهزة المنزلية والسيارات العالية التقنية، فيما أصبحت سنغافورة مركزا ماليا ولوجستيا عالميا بارزا. الاندماج الناجح له شروط، أهمها الجودة الفائقة والانضباط الشديد فى تطبيق القواعد والالتزام بالتوقيتات والمواصفات والوفاء بالوعود. تطلب توفير هذه الشروط تنفيذ عملية إصلاح اجتماعى وثقافى ونهضة تعليمية كبرى، خلصت هذه المجتمعات من الخصائص المرتبطة بالتخلف والضعف والفقر، فتحررت من الجهل والكسل والفساد والتواكل، وامتلكت ناصية التقدم.

الدول الفائقة فى عدد السكان، الصين والهند، حالات شديدة التفرد غير قابلة للتكرار، فالسكان فى كل منهما يزيد ببضع مئات من الملايين عن المليار. هذه بلاد كبيرة حتى قبل أن تبدأ أى تنمية، فما أن تشرع فى التحرك فى الاتجاه الصحيح إلا وتجنى الثمار سريعا. لدى هذه الدول، روافع جاهزة يمكن استخدامها وقتما تقرر، فالحجم الكبير يمنحها أسواقا مغرية للمستثمرين، وبقدر ما تضيف للحجم من ميزات إضافية بقدر ما تتقدم أسرع. أما كلمة السر فى نهضة هذه المجتمعات فتتمثل فى إطلاق حرية الابتكار، والأخذ باقتصاد السوق بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي.

المؤكد هو أن أيا من الدول الضعيفة الهامشية ليس سعيدا بالبقاء فى المؤخرة، لكن إيجاد الصيغة الملائمة للانتقال إلى مقدمة الصفوف ليس دائما بالأمر السهل؛ فلا الانضباط الحديدى، ولا النهضة المجتمعية الشاملة أهداف يسهل تحقيقها فى أغلب المجتمعات. أما المشترك بين كل نماذج التقدم، والذى قد يجد فيه الباحثون عن نموذج ملائم بعض الفائدة، فهو الدورالذى تقوم به نخبة الحكم فى توظيف مؤسسات الدولة لعبور فجوة الضعف والتهميش.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: