رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الحرب على النظام الدولى

توتر عسكرى متزايد حول جزيرة تايوان. اختبار للصواريخ وتلويح بالحرب فى شبه الجزيرة الكورية. حرب أوكرانيا الدائرة منذ عامين. حرب غزة التى أوشكت على استكمال شهرها الرابع. ميليشيات تعطل الملاحة التجارية فى البحر الأحمر. ميليشيات أخرى تهاجم قواعد عسكرية أمريكية فى قصف عابر للحدود. انقلابات عسكرية فى دول الساحل الإفريقى، وإثيوبيا تعقد اتفاقا للحصول على ميناء فى جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها.

لم يشهد العالم منذ عدة عقود كل هذا العدد من الصراعات المسلحة دفعة واحدة. لم تعد الحرب أمرا مستبعدا فى النظام الدولى الراهن، وأصبح عديد القادة يستسهلون إطلاق الرصاصة الأولى، والتهديد الصريح باستخدام القوة. لقد أصبح العالم مكانا شديد الخطورة، وسيظل كذلك لفترة مقبلة نتيجة للانقسام والتنافس عند قمة النظام الدولى، وتعذر التوافق بين القوى الكبرى حول تعريف العدوان وأساليب ردعه ومعاقبته. انتشار الصراعات المسلحة فى العالم يعكس عجز آليات الضبط والسيطرة وحل النزاعات.هذا هو ما يحدث عندما يفقد النظام الدولى القائم أسباب البقاء، بينما يظل التوصل إلى نظام دولى جديد أمرا بعيد المنال، فيدخل النظام الدولى فى مرحلة سيولة وانتقال، تجرب فيها الأطراف قدراتها، وتختبر الخصوم وخطوطهم الحمراء.

الصراعات الدولية تحدث طوال الوقت، لكن الصراعات الجارية فى الحقبة الراهنة هى صراعات من أجل تغيير هياكل القوة والسيطرة والقيادة فى النظام الدولى، ومن أجل إعادة ترتيب الدول حول قمة النظام، وتغيير قواعد إدارته. إنها صراعات على النظام الدولى وضده، وليست صراعات ضمن وداخل النظام.يخلق هذا النوع من الصراعات بيئة دولية مواتية لنشوب صراعات إضافية أهلية وإقليمية، يجد أطرافها فى بيئة الصراعات الدولية الراهنة فرصة لتحقيق أهداف لم يمكن تحقيقها فى ظروف أخرى، ولنا فى صراعات وانقلابات بلاد الساحل الإفريقى نموذجا.

تحدث الصراعات الدولية عندما تشعر دول بعدم الرضا عن وضعها فى النظام الدولى، وأنها تستحق وضعا أفضل مما هو متاح لها، وعندما ترى فى نفسها القدرة على التمرد على الواقع الدولى دون خوف من عقاب أو تكلفة لا يمكن تحملها. الوجه الآخر للتمردات المتكررة على النظام الدولى القائم هو تراجع قدرة القوة العظمى المهيمنة على رشوة المتمردين أو ردعهم. إنها أزمة قيادة النظام الدولى، حيث القيادة القديمة، لم تعد قادرة على ممارسة القيادة بنفس الفعالية، فى مواجهة تحديات تثيرها قوى صاعدة ومتمردة، الأمر الذى يفسح مساحات لنشوب صراعات جديدة، ويشجع قوى أخرى على محاولة الاستفادة من حالة السيولة الدولية الراهنة.

الصراع بين الصين والولايات المتحدة هو الصراع المركزى فى النظام الدولى الراهن، وهو صراع سياسى واقتصادى، وسباق للتسلح وامتلاك التكنولوجيا الفائقة، لكنه لحسن الحظ بعيد عن التحول إلى صراع مسلح. الصين تزاحم الولايات المتحدة على قمة النظام الدولى، ولديها من الإمكانات ما يؤهلها لذلك، ولديها من الحكمة والصبر الإستراتيجى ما يجعلها حريصة على تجنب الدخول فى صراع مسلح مع الأمريكيين. لكن رغم الطابع غير العسكرى للصراع الصينى الأمريكى فإن هذا الصراع المركزى يوجد ظروفا مواتية لتوليد وتكاثر صراعات أخرى فى أنحاء مختلفة من العالم، فى أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا وشرق آسيا. فالانقسام عند قمة النظام الدولى يغرى المتمردين والمتطلعين وأصحاب المظالم من الدول والجماعات لتحدى الوضع القائم مستفيدين من ظروف الانقسام الدولى، ومتأكدين من أن القطب الصينى الصاعد والكتلة التى يقودها ستوفر لهم الحماية ضد عقاب قوى الهيمنة الأمريكية والغربية.

مقارنة الوضع الدولى الراهن بالوضع الذى كان قائما فى العالم فى فترات سابقة يبين المدى الذى تراجعت إليه قدرة النظام الدولى الراهن على ضبط الصراعات. ففى عام 1990 تكون إجماع دولى لتحرير الكويت ومعاقبة صدام حسين. وفى 2011 تشكل إجماع دولى للتدخل عسكريا ضد نظام الرئيس الليبى السابق معمر القذافى لحماية المدنيين وتشجيع الثورة. وحتى عندما غاب الإجماع فإن هذا لم يمنع حلف الناتو عام 1999 من استخدام القوة ضد صربيا لمعاقبتها على استخدام القوة ضد إقليم كوسوفو المطالب بالاستقلال. يصعب تصور تدخلات مثل هذه فى عالم اليوم، وليس مرجحا أن نرى قريبا الولايات المتحدة والصين وروسيا تصوت فى مجلس الأمن فى نفس الاتجاه فى أى تصويت موضوعى حاسم.

قد يكون من الصعب على الصين فى هذه المرحلة أن تصبح قوة عالمية عظمى تصل بقواتها المسلحة إلى كل ركن من أركان المعمورة كما تفعل الولايات المتحدة. لكن من الممكن الضغط على الأمريكيين لإجبارهم على التراجع والانسحاب من أقاليم تعتبرها الصين وقوى صاعدة أخرى مجالها الحيوى والمجال الطبيعى لممارسة السيطرة. فالصين وكوريا الشمالية تضغطان لإخراج الولايات المتحدة من شرق آسيا، بينما تضغط روسيا لإخراج الولايات المتحدة من مناطق الجوار الروسى القريب فى شرق أوروبا. أما فى الشرق الأوسط، فإن إيران تشن حملة دءوبة لطرد الوجود الأمريكى من المنطقة. التزامن بين كل هذه الصراعات يشير إلى تنسيق من نوع ما من أجل إرهاق الأمريكيين.

جوهر التحول الراهن فى النظام الدولى هو مطاردة النفود الأمريكى من أقاليم العالم، ومحاولة إجبار أمريكا على التراجع، وتقليص نفوذها وهيمنتها إلى حدود العالم الغربى، لتقزيمها من قوة عالمية عظمى إلى قوى إقليمية كبرى، تواصل هيمنتها على الغرب، لكن ليس بعيدا فيما وراءه.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: