يعيدنا يناير لذكرى الانتفاضات الجماهيرية الكبرى التى شهدتها دول عربية عدة فى مطلع عام 2011. حدثت الانتفاضات فى تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن. تم إنقاذ مصر وتونس، بينما سقطت الدول الثلاث الأخرى فى حروب أهلية. بعد عدة سنوات نشبت موجة جديدة من الانتفاضات فى الجزائر والسودان، فنجا الجزائر بعد إجبار رئيسه على الاستقالة، بينما انتهى السودان إلى حرب أهلية جديدة. تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والسودان والجزائر، ويمكن أيضا إضافة العراق ولبنان إلى هذه القائمة، كلها دول تأخذ بالنظام الجمهوري. لماذا تبدو الدول ذات النظام الجمهورى فى العالم العربى غير مستقرة وهشة؟ هل الأمر مجرد مصادفة أم أن هناك ما هو أكثر من ذلك؟
تعانى الجمهوريات العربية المصاعب، بينما النظم الملكية العربية تبدو متماسكة وقادرة على مواجهة التحديات. الملكيات العربية فى الخليج محظوظة بالثروات النفطية التى حباها الله بها، حيث الوفرة المتاحة تسمح بإرضاء المطالب، ومعالجة المشكلات، والتغطية على ما قد يحدث من تقصير.
لكن بعض الجمهوريات العربية التى أصابتها عدوى الاضطرابات، خاصة العراق والجزائر، هى أيضا دول نفطية. حسب البنك الدولى، فإن النفط يمثل 42.8% من الناتج المحلى الإجمالى فى العراق، وهى النسبة الأعلى بين كل البلاد العربية، وأعلى حتى من المملكة السعودية، أكبر منتج عربى للنفط، والتى يمثل النفط فيها 23.7% من الناتج المحلي. أما فى الجزائر فالنفط يمثل 14.5% من الناتج المحلى، وهى نسبة قريبة جدا من نسبته فى دول خليجية، مثل الإمارات (15.7%)، وقطر (15.3%). الثروة النفطية لا تقدم سوى تفسير جزئى لاستقرار الملكيات العربية، فالثروة النفطية الوفيرة الموجودة فى جمهوريات عربية لم تحمها تماما من عدوى الانتفاضات، بما يوحى بأن الثروة النفطية وحدها لا تفسر الاستقرار والأداء السياسى الناجح فى النظم الملكية.
دور النفط والثروة فى ضمان الاستقرار يبدو أقل أهمية لو فحصنا الحالتين المغربية والأردنية. عرفت الاضطرابات طريقها إلى الملكيات العربية فى المغرب والأردن فى مطلع موسم الانتفاضات العربية، لكن سرعان ما نجحت نخب الحكم هناك فى احتواء الاحتجاجات دون حاجة لاستخدام العنف والقمع. الأردن والمغرب كلاهما محرومان تماما من أى فائض مالى أو ثروة نفطية، ففى البلدين لا يمثل النفط سوى «صفر %» من الناتج المحلى الإجمالى، بما يحرم نخبة الحكم هناك من فرصة شراء الاستقرار بالمال.
ربما كان فى النظام الجمهورى شىء ما يجعله أكثر عرضة للاضطرابات، بينما تتمتع النظم الملكية بقدرة أكبر على إدارة الضغوط التى تتعرض لها. النظام الملكى يبقى على سلطة السيادة العليا فى يد عائلة مالكة تتوارث الحكم، فيرسم خطا أحمر غير قابل للتجاوز، تتحصن خلفه سلطة السيادة، التى تبقى خارج نطاق المنافسة السياسية، متعالية على الانقسامات المذهبية والطائفية والأيديولوجية، فيما وراء أى مطالبة بالمساواة، أما تحتها فيتساوى الرعايا، يتنافسون ويتنازعون فيما بينهم، حتى يأتى العرش لكى يفصل بينهم. هذا هو نموذج الملكية الدستورية المعدل المعمول به فى الملكيات العربية غير النفطية، وهو النموذج الذى سمح بدرجة لا بأس بها من المنافسة السياسية وتداول السلطة تحت مستوى سلطة السيادة العليا التى يبقيها النظام الملكى خارج نطاق المساواة والمنافسة.
النظام الجمهورى ثورة على عدم المساواة وعلى الامتيازات، فهو يقوم على رفض امتيازات الطبقة الأرستقراطية، ويقيم نظاما تتساوى فيه الرءوس، يمكن فيه لأى فرد الوصول إلى أعلى مواقع السلطة لو توافرت له شروط يحددها الدستور والقانون. هذا هو الوعد الرائع للحكم الجمهورى، وهو وعد لو تعلمون عظيم، وإن كان لا يبدو أن الآباء المؤسسين للنظام الجمهورى فى العالم العربى قد أدركوا تماما تبعات هذا الوعد، أو قدروا بدقة ما إذا كانت الهياكل الاجتماعية والمؤسسات والثقافة السياسية فى مجتمعاتهم لديها ما يكفى من الطاقة لاستيعاب وتحمل المساواة العميقة التى ينطوى عليها النظام الجمهورى، وعمق الإصلاحات الواجب إدخالها على المجتمع والمؤسسات والثقافة السياسية لتتلاءم مع هذا النظام.
المساواة السياسية أعقد وأعمق كثيرا من جملة تتم إضافتها للدستور، فمالم يترافق النص الدستورى مع إصلاحات ترتقى بطاقة المجتمع على تحمل تبعات المساواة ظهر لدينا خطان متوازيان لا يلتقيان، أحدهما للنص الدستورى المجسد للوعد الجمهورى بالمساواة، والآخر للممارسة التى تراعى قيودا اجتماعية ومؤسسية وثقافية ثقيلة، فيجد القائمون على النظام الجمهورى أنفسهم مجبورين على اختراع حيل وحجج وصياغات تغطى على الفجوة بين المبدأ والممارسة، لكن عند لحظة معينة قد تنفد الحيل، أو يترك الأمر فى أيدى لاعبين يفتقدون المهارة، عندها تفقد الحجج المستخدمة فعاليتها، ويتعرض النظام لضغوط فوق طاقته، تطول كل السلطات وأعلاها، فيترنح النظام، كما حدث لنظم جمهورية عدة قبل ثلاثة عشر عاما.
حاول بعض الزعماء حل مأزق الحكم الجمهورى بتوريث الحكم للأبناء، فحولوا الجمهورية إلى «جملكية»، حسب تعبير الراحل سعد الدين إيراهيم. لم تنطو الحيلة على أحد، وانتهى الأمر بفشل من جربوا هذه الحيلة، دون أن يؤدى هذا إلى حل معضلة النظام الجمهورى فى السياق العربى، والتى أظنها تحتاج إلى إصلاحات دستورية وسياسية تعمق طاقة المجتمع على المساواة السياسية، فيما تراعى القيود الواقعية التى لا نبدو قادرين على الفكاك منها فى وقت قريب.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: