رحل الدكتور سعد الدين إبراهيم، الذى كان أستاذا لكثيرين، قبل شهور قليلة. تعلمت من الدكتور سعد الكثير خلال العمل فى بعض المشروعات تحت قيادته، وعبر الجلسات التى كان يعقدها كل يوم أحد مع الباحثين الشبان فى مركز دراسات الأهرام. لسعد الدين إبراهيم إسهامات كثيرة طورت الفكر السياسى والاجتماعى فى مصر والوطن العربى، لكنى أتوقف عند واحدة من الأطروحات المهمة التى ألقاها، فأثارت جدلا. أتحدث عن أطروحة سعد الدين إبراهيم عن تجسير الفجوة بين المثقف والأمير، أو بين المثقفين والسلطة. استلهم سعد الدين إبراهيم فى أطروحته هذه كتاب الأمير، الذى نشره فى عام 1532 نيقولا ميكيافيللى، أحد أهم المفكرين فى عصره، لتبصير الأمير، حاكم مقاطعة البندقية فى إيطاليا، بقواعد الحكم الرشيد والسلطة المستدامة، والسياسة العملية المستنيرة.
نظر سعد الدين إبراهيم حوله فى العالم العربى فى ثمانينيات القرن العشرين فوجد سلطة حكام محافظين تزداد رسوخا، فيما كانت الحركات الثورية للمثقفين العرب، الذين ملأوا الدنيا أحلاما كبيرة صاخبة طوال العقود الثلاثة السابقة، تخفت بسرعة، مخلفة هزائم موجعة وموجة تطرف أصولى عاتية. تمرد المثقفون الثوريون على الأمير، وشاركهم سعد الدين إبراهيم التمرد لفترة قصيرة التحق خلالها بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أيقونة الثورة الاجتماعية والقومية فى زمنها. أخفقت التمردات الثورية، وبقى الأمير على حاله، وواصلت بلاد العرب التراجع. حلا لمعضلة تراجع العالم العربى المزمن اقترح سعد إبراهيم تجسير الفجوة بين المثقف والأمير، فنقيم الصلات بين الطرفين، ليطرح الأمير همومه والاعتبارات التى تحكم قراراته، فيما يطرح المثقف رؤاه لواقع اجتماعى وسياسى أفضل، فيصبح المثقف أكثر واقعية، فيما يصبح الأمير أكثر إقداما على الإصلاح، ونربح جميعا.
جوهر فكرة سعد إبراهيم هو أن فى العالم العربى مجالين منفصلين، الأول هو مجال السياسة والحكم، وفيه يصل إلى السلطة من يملك مهارات من نوع خاص وشبكة علاقات تدعمه؛ والثانى هو مجال الثقافة والمعرفة، وفيه يدرس المثقفون ويفكرون ويحلمون. تحدث المشكلة عندما يظل كلا المجالين معزولا عن الآخر، فلا الحكم يستنير بالمعرفة، ولا الثقافة تتجاوز قاعات الدرس ورفوف الكتب. تحدث المشكلة أيضا عندما يتصور المثقف أن بإمكانه الحلول محل الأمير، أو يتصور الأمير إمكانية الاستغناء عن الثقافة والمثقفين، وفى الحالتين نكون كلنا خاسرين.
هناك فجوة بين المثقف والأمير لأننا إزاء مجالين متمايزين: السلطة والحكم من ناحية والمعرفة من ناحية أخرى. لا الوصول للسلطة والبقاء فيها له علاقة بالثقافة، ولا الثقافة تؤهل صاحبها للسياسة والسلطة، فأى منهما لا يعد شرطا للأخرى. قد يكون لدى المثقف تصورات رائعة وخطط ممتازة، لكنه لا يملك ما هو ضرورى من جلد وصبر ومهارات وموارد لتحويلها إلى واقع. كم من مثقفينا خاض تجربة الانتخابات وفاز فيها؟ كم من مثقفينا الكبار دخل الحكومة وسرعان ما ندم على هذا الاختيار، وتنفس الصعداء يوم خروجه منها؟
التمايز بين السياسة والثقافة ليست شأنا عربيا فقط، وفى تاريخ روسيا وثورتها شيء يشبه ما يحدث فى بلاد العرب. فى الصراع بين المثقف الفصيح تروتسكى، ورجل التنظيم والتكتيك والسياسة ستالين، فاز الأخير، وأرسل قتلة محترفين يطاردون الثورى المثقف حتى نالوا منه. نعرف أن مصير الاتحاد السوفيتى تحت حكم رجل التنظيم والتكتيك كان مبهرا فى البداية، لكنه انتهى بائسا حتى الانهيار، غير أن هذا لم يغير حقيقة التمايز بين مجالى الثقافة والسياسة. نعرف أيضا أن الشعب الروسى عندما واجهته ظروف مشابهة عاد واختار الرئيس بوتين رجل التنظيم والتكتيك القوى فى مواجهة خصوم فيهم الكثير من رجال وأعلام الثقافة. لا أتمنى للأمة الروسية العظيمة تكرار تجربة الاتحاد السوفيتى، وفى يقينى أن أحد الطرق لتجنيب روسيا هذا المصير هو تجسير الفجوة بين الأمير ومثقف الحرية والإنسانية والتقدم.
دعوة سعد الدين إبراهيم لتجسير الفجوة بين المثقف والأمير مازالت صالحة، رغم أن سعد الدين إبراهيم نفسه تمرد عليها أحيانا، الأمر الذى انتهى به محبوسا فى عهد الرئيس مبارك. ما أعرفه هو أن الدكتور سعد الدين إبراهيم ظل متمسكا بفكرته لآخر يوم فى حياته، وأنه ظل أيضا متمسكا باستقلالية المثقف، فالتجسير عنده لا يعنى الذوبان أو التبعية، وصدامه مع مبارك لم يكن تخليا عن مشروع التجسير، لكنه كان تفاوضا جادا على شروط عبور الجسر الواصل بين المثقف والأمير.
فى رثائه للدكتور سعد الدين إبراهيم كتب الدكتور مصطفى كامل السيد مقالا ممتازا ناقش فيه، ضمن أشياء أخرى، أطروحة سعد الدين إبراهيم عن المثقف والأمير، ورأى أنه لا مجال لتجسير الفجوة بينهما إلا من خلال مؤسسات ديمقراطية. تجسير الفجوة فى العالم العربى ضرورى لبناء الديمقراطية، وعندها تنتهى الحاجة لإقامة جسور خاصة بين المثقف والأمير، لأن النظام الديمقراطى هو عبارة عن جسور متينة فوق الفجوات الاجتماعية والسياسية، لتحقيق التواصل بين المثقفين والسياسيين، والفقراء والأغنياء، والمحكومين والحكام. تجسير الفجوة بين المثقف والأمير هو شرط لتجسير الفجوات الأخرى الموجودة فى المجتمعات العربية.
عملية تقريب المسافة بين مجالى السياسة والثقافة هى عملية تاريخية طويلة ينضج خلالها المجتمع فى اتجاه الحداثة الديمقراطية، ولكن لكى يحدث هذا، وحتى يحدث هذا، فإننا نحتاج إلى تجسير الفجوة بين المثقف والأمير. رحم الله سعد الدين إبراهيم.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: