أزمة العدوان الإسرائيلي على غزة ليست أزمة تقليدية. عناصر عدة ميزت هذه الأزمة عن غيرها من الأزمات السابقة التي مرت بها القضية الفلسطينية، والتي مر بها إقليم الشرق الأوسط. من حيث الأطراف المباشرة، جاءت الأزمة في ظل لحظة داخلية إسرائيلية اتسمت بهيمنة اليمين السياسي والديني، ووجود حكومة يمينية متطرفة تقوم على توازنات هشة وحرجة. على الجانب الآخر، يعاني البيت الفلسطيني انقساما داخليا مستقرا منذ عام ٢٠٠٧. ورغم الدور الذي لعبته الأزمة في تجاوز خطاب الانقسام الفلسطيني، لكن لا يمكن تجاهل تأثيرات هذا الانقسام. ومن حيث السياق، جاءت الأزمة في مرحلة يمر فيها النظام العالمي بمرحلة انتقالية، فرغم ما يبدو من وجود حالة صراعية على قمة النظام العالمي، بين روسيا والغرب في أوكرانيا، وبين الصين والولايات المتحدة (ومعها قوى أخرى) في منطقة الإندوباسيفيك، لكن مازال «النظام أحادي القطبية» هو التوصيف الدقيق لحالة النظام العالمي الراهن، ومازالت كل من روسيا والصين في مرحلة لا تسمح لهما بالدخول في أي مواجهات عسكرية مع الولايات المتحدة خارج أقاليمهما الحيوية، أو بسبب قضايا لا تمثل أولوية مباشرة بالنسبة لأمنهما القومي، دون أن ينفى ذلك حرص كل منهما على توظيف هذه الأزمات لكسب بعض النقاط في سياق تنافس استراتيجي مع الولايات المتحدة.
هذا السياق الدولي دفع الولايات المتحدة إلى توظيف الأزمة الراهنة لتأكيد حضورها المباشر بالإقليم، ليس فقط لحسابات تتعلق بعلاقات تحالفها الاستراتيجي/ العضوي مع إسرائيل، لكن لتوصيل رسائل واضحة لمنافسيها الاستراتيجيين (روسيا والصين) مفادها أنها مازالت القوة العظمى المتحكمة في السياسات العالمية والإقليمية. بالإضافة إلى ذلك، تكتسب الأزمة خصوصيات إضافية بالنسبة لمصر، بالنظر إلى ما تضمنته من تهديد مباشر لأمنها القومي، على خلفية المحاولات الإسرائيلية لاستغلال الأزمة لفرض مشروع التهجير القسري، وتصفية القضية الفلسطينية بالقوة العسكرية على حساب دول الجوار، ومحاولاتها فرض واقع سياسي وأمنى جديد على الحدود المصرية خارج الاتفاقيات والمعاهدات القائمة. أضف إلى ذلك ما تضمنته السردية الإسرائيلية/ الغربية حول الأزمة من مغالطات ضخمة، بدءا من التكييف الذي قدمته حول ما حدث في السابع من أكتوبر، وانتهاء بالاتهامات والأكاذيب حول إعاقة مصر تدفق المساعدات الإنسانية إلى داخل القطاع عبر معبر رفح.
في ظل هذه الخصوصيات والتعقيدات، جاءت الإدارة المصرية لهذه الأزمة المركبة لتمثل واحدة من أكثر علامات نجاح العمل السياسي والدبلوماسي المصري. وإزاء هذا الطابع المركب، عملت مصر على عدة مسارات متوازية. المسار الأول، هو تقديم تكييف دقيق لعملية السابع من أكتوبر، ففي مواجهة السردية الإسرائيلية/ الغربية التي تعمدت تقديم هذه العملية على أنها عملية «إرهابية» منقطعة الصلة عما قبلها، فقد نجحت مصر في تقديم تكييف آخر لتلك العملية على أنها أزمة في سلسلة من الحلقات المتصلة والمتراكمة منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي، وأن هذه «السلسلة» لن تنقطع دون تسوية نهائية وعادلة للقضية الفلسطينية. المسار الثاني، هو المسار الإنساني الإغاثي، عبر العمل على تأمين التدفق المستدام والآمن للمساعدات الإنسانية إلى داخل قطاع غزة عبر معبر رفح، بهدف تخفيف المعاناة الإنسانية للأشقاء الفلسطينيين، ومواجهة المشروع الإسرائيلي للقضاء على سبل العيش داخل القطاع. وقد واجه هذا المسار -ولايزال- تعنتا إسرائيليا ضخما، وسيلا من المغالطات والأكاذيب لم ينقطع.ومع ذلك نجحت الإرادة المصرية في فرض رؤيتها على المجتمع الدولي، على نحو دفع الولايات المتحدة نفسها إلى إعادة النظر في موقفها من قضية المساعدات الإنسانية، وفتح مسارات جديدة لتأمين تدفق هذه المساعدات. أضف إلى ذلك، الموقف المصري الذي اشتبك مع السياسة الإسرائيلية التي تسعى إلى تقويض عمل وكالة الأنروا داخل قطاع غزة.
المسار الثالث، هو استغلال الأزمة لإحياء القضية الفلسطينية، وإقناع كل القوى الدولية أنه دون تسوية عادلة للقضية الفلسطينية وفقا للمرجعيات الدولية المقررة، وعلى أساس مبدأ حل الدولتين، لن تنتهي موجات التصعيد بين إسرائيل والقوى الفلسطينية، وأن المقاربات العسكرية والأمنية التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لن تنجح في تحقيق الأمن لإسرائيل. المسار الرابع، هو إجهاض مشروع التهجير القسري الذي لم يغب عن مخيلة القوى السياسية الإسرائيلية، لكنها حاولت توظيف الأزمة الراهنة لفرض هذا المشروع بالقوة العسكرية. في المقابل، نجحت مصر في إجهاض هذا المشروع، بل نجحت في تكوين رأى عام دولي قوى رافض له. إن رفض مصر لمشروع التهجير لم يستند فقط لحسابات تتعلق بحماية الأمن القومي المصري، لكنه كان شرطا رئيسًا لإجهاض المشروع الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية. الأزمة مثلت مناسبة مهمة لتأكيد العلاقة القوية بين الأمن القومي المصري وحماية القضية الفلسطينية دون التصفية. المسار الخامس، هو العمل على إنهاء العدوان. وفى ظل تعقيدات الوصول إلى هذا الهدف، عملت مصر خلال المراحل الأولى من الأزمة على الوصول إلى هدنة/ هدنات إنسانية وفقا لشروط محددة متوافق عليها، وهو ما حدث بالفعل خلال الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر الماضي، ثم انتقلت مصر إلى العمل على الوصول إلى وقف إطلاق النار عبر جهود دبلوماسية مضنية لازالت جارية حتى الساعة.
المسار السادس، هو الحيلولة دون إيجاد واقع سياسي وأمنى وعسكري داخل غزة يكون على حساب العلاقات الفلسطينية - الفلسطينية، أو على حساب مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، أو على حساب الأمن القومي المصري، وهو ما دفع مصر إلى ضبط الجدال الدائر حول «اليوم التالي» في قطاع غزة، بما يتوافق مع هذه الضوابط الثلاثة، فضلا عن رفض مصر القاطع لامتداد العدوان إلى مدينة رفح الفلسطينية.
هذه فقط عناوين للمسارات العدة التي عملت عليها القيادة السياسية المصرية، والدولة المصرية بكل مؤسساتها. وتحت كل مسار من هذه المسارات كانت هناك جهود مضنية على مدار الساعة، منذ بدء العدوان، ولن تنتهي هذه الجهود إلا بانتهاء الأزمة وتحقيق الأهداف المصرية كاملة، بما يحمى الأمن القومي المصري، وبما يحمى القضية الفلسطينية ويحمى حق الأشقاء الفلسطينيين في الوصول إلى هدفهم المشروع: دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية.
[email protected] لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات رابط دائم: