رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

فـى ذكـرى مولد المصطفى
حصار بنى هاشم فى الشِعب

من خلف جلمود صخر «أبوقبيس» أعلى جبال مكة كانت تسمع صرخات الصغار الجوعى التى جفت أثداء عطائها في أجساد الأمومة الضامرة التى تقتات على أوراق الشجر وجلود الحيوانات النافقة لتذوى الأناّت كبيرها وصغيرها. مع لفح سخونة الحصار الخشنة لينبئ من بعدها الخرس الآتى من خلف جدران المقاطعة بمزيد من شهداء شِعب أبى طالب الذى حوصر فيه بنو هاشم لمدة ثلاث سنوات بداية من محرم فى السنة السابعة إلى محرم سنة عشر منها بقرار اتخذه سادة قريش للضغط على الرسول، ولثنيه عن الدعوة للإسلام فى الرسالة المحمدية التى نهض بها رجل واحد بما يأباه قومه ويأباه معهم أقوام زمانه.. رسالة ليست بإرادة الإنسان ولكنها إرادة اللـه، وما هى بقدرة أحد أو آحاد، ولكنها قُدرة الخالق فيما خلق، يوليها من يشاء حيث شاء.. محمد اليتيم فى غير ذلّة العزيز في غير قسوة، الذى يرث الكعبة ولكنه يهدم أربابها، ويرث الأريحية من يقين بنى هاشم ولكنه يُغيّر مجراها، ويرث العصبية فى أقواها وأمنعها ولكنه يقودها إلى عصبية واحدة تضم إليها العرب والعجم وتؤمن برب واحد هو رب العالمين.

لم يكن حصار شعب أبى طالب بداية ولا نهاية لما تعرَّض له رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم من عذابات قريش فى مسيرة رسالته.. فى المرحلة السرية من الدعوة وقبل أن يُؤمر بإعلانها انتشرت شائعات عن أنباء النبوة، فكان النبى إذا مر بملأ من قريش قالوا: «إن فتى عبدالمطلب ليكلم السماء» حتى إذا ما أعلن دعوته وتمادوا فى سخريتهم بصورة واضحة يسجلها القرآن الكريم فى قوله: «وإذا رأك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذى يذكر آلهتكم...»، وقوله تعالى: «وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذى بعث اللـه رسولا».. وتقرر بطون قريش تكوين فرقة خاصة مهمتها الاستهزاء بالرسول، وجعلت أقطابها: الوليد بن المغيرة ــ والد خالد بن الوليد ــ وعقبة بن أبى معيط، والحكم بن العاص بن أمية ـ جد ملوك بنى أمية ووالد مروان بن الحكم بانى المملكة الأموية وعم عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث، ــ وأبوجهل.

وقال البخارى: بينما النبى يُصلى فى حجر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبوبكر رضى اللـه عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبى قائلا: «أتقتلون رجلا أن يقول ربى اللـه وقد جاءكم بالبينات من ربكم».. ولقد أشار القرآن لوجود هذه الفرقة بقوله تعالى: «إنا كفيناك المستهزئين»، وما يؤكد واقعة الاستهزاء قوله جلّ جلاله: «ولقد استهزئ برسل من قبلك» وقوله تعالى فى قرآنه الكريم: «ولقد استُهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون».. لقد كانت قريش ترى فى الرسول صلى اللـه عليه وسلم أنه غير أهل للرسالة لأنه ليس عظيمًا بمقاييسهم المغلوطة للعظمة، وانظر قوله تعالى مسجلا الظواهر التى كانت بطون قريش تبنى عليها مواقفها: «وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم»، وبجانب السخرية كان هناك التكذيب والادعاء بالافتراء، وجاء ذلك في قوله تعالى: «وإن يكذبوك فقد كُذِّب الذين من قبلهم» وجاء فى قرآنه الكريم «قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزامًا».


وأمام ثقة القبائل ببطون قريش حماة البيت الحرام وجيرانه وسدنته قد اقتنعت بادعاءات قريش على الرسول فى أمر النبوة، ومن هنا عندما عرض نفسه على الكثير من تلك القبائل أعرضت عنه بقولها: «أسرتك وعشيرتك أعلم بك، حيث لم يتبعوك»، وتبعًا للحرب النفسية ومحاولات بطون قريش إجهاض الدعوة ذهبت إلى أبى طالب عم الرسول ــ واسمه الحقيقى عبد مناف وهو الأخ الشقيق لوالد رسول اللـه عبداللـه بن عبدالمطلب وأمه فاطمة بنت عمر وكان الأعمام اثنى عشر هم الحارث، وأبوطالب، والزبير، وحمزة، وأبولهب ــ عبد العزى ـ والغيضان، والمقوم، وضرار، والعباس، وقثم، وعبدالكعبة، والمغيرة، وعبداللـه والد الرسول ــ وكان أبوطالب قد تولى رعاية ابن أخيه محمد بعد وفاة جده عبدالمطلب وهو ابن ثمانى سنوات فأحبه وأواه ونصره، حتى فاق حبه لابن أخيه حبه لأولاده فكان لا يتوانى عن الذود عنه، ولما نزلت النبوّة وجهر النبى بالدعوة لم يتخل عنه بل ظل خط الدفاع الأول له، فيقف فى وجه كل من يعاديه أو يريد أذيته، على عكس عمه أبى لهب الذى تصدَّر العداء له ووقف فى وجه دعوته.

ذهبت قريش للعم فى محاولة لإغراء ابن أخيه بشتى الوسائل التى عرضوها لينقلها إليه لعل وعسى فأتى رفض رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم قاطعًا: «إن اللـه لم يبعثنى لجمع الدنيا والرغبة فيها، وإنما بعثنى لأبلغ عنه وأدل إليه»، وكان من بين الإغراءات: «إن كان مريضا داويناه، وإن أراد مالا جمعنا له من أموالنا ليكون أكثرنا مالا»، فقال عليه الصلاة والسلام: «واللـه لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى ما تركت هذا الأمر حتى يظهره اللـه أو أموت دونه»، ولقد سجل القرآن الكريم الكثير من مطاعن بطون قريش بالنبى الأعظم: «فذكّر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون». (الطور 29-30) «..وقالوا يا أيها الذى نُزل عليه الذِّكر إنك لمجنون» (الحجر).. ولا تكتفى قريش بقلب الحقائق وبطعونها الظالمة بشخصية الرسول وإنما آذته أيضًا بأفعال مادية وعلى سبيل المثال عندما جمح طغيانها أمرت غلامًا أن يُلقى بالقاذورات على ظهر النبى فأخبر عمه بما جرى فغضب وجاء متشحًا سيفه مهددًا زعامة البطون الجالسة حول الكعبة: «واللـه لا يتكلم منكم رجل إلا وضربته» ثم أمر غلامه فألقى القاذورات على وجوه الجالسين من بطون قريش التى أخذت من بعدها تتطاول على القرآن الكريم ذاته أعظم براهين النبوّة، فتزعم أنه من أساطير الأولين، ولو شاءت لقالت مثله، فتحداها محمد بأمر من ربه أن تأتى بعشر سور مفتريات من مثله كما تزعم فعجزت، وتحداها أن تأتى بسورة فعجزت، ثم أعلن النبى بأمر من ربه بأن الجن والإنس لو اجتمعا لن يأتوا بمثل هذا القرآن.. ويسألون الرسول صلى اللـه عليه وسلم عجائب لا تخطر على البال كى يؤمنوا برسالته بقصد تعجيزه والتشهير به.. طالبوه بأن يغيّر طبيعة بلادهم الصحراوية فيسير الجبال ويفجر الأنهار ويحيى الموتى، وأن يجعل اللـه له الجنان والقصور ويعطيه الكنوز، وما أسخف ما سأله عبداللـه بن أبى أميّة بن المغيرة الذى طلب من النبى ـ أن يتخذ سلمًا إلى السماء ويأتى بصك وأربعة ملائكة يشهدون معه على صحة ما يقول فى دعوته.. لماذا كل هذا؟ كي يؤمن عبداللـه بن أبى أمية هذا؟!!.. وقد قاسى الأنبياء الصعاب فى سبيل هداية الكفار الذين كانوا يرمونهم بالضلال والسفاهة والجنون والسِحر.. لقد قال تعالى فى سورة الأعراف: «لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا اللـه ما لكم من إله غيره إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم»، فبماذا أجابوا على ذلك؟ «قال الملأ من قومه إنا لنراك فى ضلال مبين»، ولما دعا هود عليه السلام قومه لعبادة اللـه رموه بالكذب والسفاهة ليقول تعالى: «وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا اللـه ما لكم من إله غيره أفلا تتقون. قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك فى سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين»، ولما أظهر موسى عليه السلام المعجزة وألقى العصا فانقلبت ثعبانًا ادّعوا أنه ساحر قال تعالى: «فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هى بيضاء للناظرين. قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم».. المتعنتون لا يؤمنون مهما يروا من الآيات البينّات وخوارق العادات: «وقالوا مهما تأتنا به من آية لتُسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين».. فهل من بعد ذلك مكابرة وإصرار على الكفر؟!!


وفى مراحل التفاوض مع الرسول صلى اللـه عليه وسلم يذهب إليه عتبة بن ربيعة سيد قومه ــ جد معاوية بن أبى سفيان لأمه ــ مندوبًا من قريش لعله يغريه بالرجوع عن دعوته، فيقول له متوددًا: «يا ابن أخى.. إنك منا حيث قد علمت من المنزلة فى العشيرة والمكان فى النسب.. وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم.. فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت من مضى من آبائهم.. فاسمع منى أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها..» فقال له محمد عليه الصلاة والسلام: قل يا أباالوليد أسمع.. وينصت الرسول بصبر وأناة إلى ما قد سبق سماعه من مغريات وعروض مذهلة لترك رسالته المحمدية، والإنسان خلقه ربه بلسان وأذنين ليستمع أكثر مما يتكلم متغاضيا عن الأسئلة الجانبية فى الحوار لأنها تأتى خارجة عن صلب الموضوع، ولو فعل لطال وأضلّ الحوار، ولأن على كل صاحب دعوة أن لا يقدم التنازلات ولا يتغير ولا يقبل المساومات من أجل رسالته السامية ومبادئه الثابتة، فالدعوة لا تضعف ولا ينفض الناس عن أهلها إلا حينما تتغلب الأطماع على المبادئ.. يساوم عُتبة النبى فى أعظم أمانة حُملت له وهى تبليغ الرسالة، ومع ذلك يستمع النبى لخطابه ولا يقاطعه ولا يعارضه، وكأنما معجب بما يقول، فالتأدب واجب مع المخالف ولو خالفنا فى العقيدة والدين.. وعندما ينتهى عُتبة يأتى رد النبى عليه بالقول القرآنى من سورة فُصلت: «حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فُصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون. بشيرًا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لايسمعون. وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون. قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إلىّ أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون»، وعندما وصل الرسول إلى قوله تعالى: «فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود»، عندها أمسك عُتبة على فم الرسول وناشده أن يكف، وذهب إلى قريش يقول واللـه ما سمعت مثله قط.. قالوا سحرك واللـه بلسانه.. قال هذا رأيى فيه فاصنعوا ما بدا لكم.. لقد نصح قومه بالحقيقة التى أدركها وهى ترك دعوة الرسل تسير فى طريقها ولا تشوه ولا تُحبس ولا تعادى، وذلك للمصلحة الشخصية، فدعوة محمد شرف لقريش ولأهل مكة والعرب.. أدرك الرجل الجاهلى بفطرته أن هذه الدعوة التى تحمل هذا القرآن العظيم لن تقف فى وجهها أى قوة، ومن ثمَّ فإن مصادمتها تعد صفحة سوداء فى تاريخ أهلها، وذكرا سيئًا لا تمحوه الأيام.. وإذا ما كان عُتبة قد قُتل وهو فى صفوف كفار قريش على يد حمزة بن عبدالمطلب فى غزوة بدر، فإن من صلبه جاء ابنه أبوحذيفة بن عتبة بن ربيعة الذى أسلم قبل دخول الرسول دار الأرقم وهاجر مع المسلمين إلى الحبشة وعاد إلى مكة ليُقيم مع الرسول حتى هاجر للمدينة وقُتل يوم اليمامة، ولقب بالشهيد ذى الابتسامة.

فشل المشركون فى المفاوضات والمساومات والتنازلات متنقلين من طور إلى طور، ومن دوْر إلى دور، فمن شدة إلى لين، ومن لين إلى تهديد، ومن جدال إلى مساومة، ومن ترهيب إلى ترغيب.. كانوا يثورون ثم يخورون، ويجادلون ثم يجاملون، ويتنازلون ثم يتوعدون، ويوعدون ثم يرغبون.. يتقدمون ويتأخرون ولا يقر لهم قرار فاحتاروا ماذا يفعلون..؟ وفى السنة السابعة للبعثة النبوية كان الكيل قد طفح بالنسبة لقريش فاتخذت قرارا حاسما بمعاقبة النبى وعشيرته بنى عبد مناف بشقيها: بنى هاشم وبنى المطلب، وذلك بإصدار قانون جديد لحرب أهل الإيمان وهو قانون المقاطعة، وتفعيل سياسة الحصار الاقتصادى، وإعمال سياسة التجويع الجماعى لهم سواء أكانوا كفارا أم مسلمين.. القانون الذى يخالف كل أعراف وتقاليد وقيم مكة السابقة، ولا يهم إذا ما كنا فى الأشهر الحرم، فالمصالح تتقدم جميع الأعراف.. وجاء فى أهم بنود المقاطعة أن على أهل مكة قطع علاقاتهم مع بنى عبد مناف فلا يزوجوهم ولا يتزوجون منهم، ولا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم وأن يمنعوهم من الرعى، وأن لا يقبلوا منهم صُلحا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا الرسول للقتل.. صاغوا قانون العقوبات فى صحيفة علقوها فى جوف الكعبة لكى يعطوها مظهر القداسة وأقسموا بآلهتهم على الوفاء بها ولم يُستثن من قراراتها سوى عم النبى «أبى لهب» الذى ناصر قريشًا وقاطع أهله وعشيرته ولم يراع حرمة القرابة كرهًا وبغضًا لرسول اللـه، وقيل إن من كتب الصحيفة هو منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم ويُقال إنه نضر بن الحارث، والصحيح عند ابن القيم أنه بغيض بن عامر بن هاشم الذى دعا عليه الرسول فشلّت يده.. وإزاء ذلك البغض المدوّن، وسواد النفوس الموقع عليه من أربعين قرشيًا كارهًا باغضًا حاملا روح الانتقام، اجتمع أبوطالب على الجانب الآخر ببنى هاشم وبنى المطلب ودعاهم إلى القيام بالحفاظ على النبى فأجابوه كلهم مسلمهم ومشركهم حمية للجوار وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند الكعبة، ودخلوا إلى شعب أبى طالب وبينهم الرسول ليكونوا جميعًا حوله كى يحموه من زعماء الكفر بمكة.. حمية واقعية ليست بالخطب والأشعار وإنما التضحية من أجل وعد قطعوه على أنفسهم وكلمة أعطوها كانت بمثابة السيف الباتر.. ثلاث سنوات من الظلم والحصار الجماعى.. صورة جاهلية تكررت كثيرا بعدها على مر التاريخ.. تكررت فى العراق وليبيا والسودان وأفغانستان والصومال وإيران ولبنان وفلسطين.. الكثير من المسلمين يُحاصرون فى بقاع الأرض من يوم بعث الرسالة المحمدية حتى ساعتنا الراهنة.. ولم يكن غريبًا فى ذلك الحصار البعيد أن يضحى المسلمون من بنى هاشم وبنى المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وبأولادهم لأنهم يقاتلون من أجل عقيدة، لكن الغريب فعلا أن يصبر من لم يدخل الإسلام من بنى هاشم وبنى المطلب على هذا الحصار وهو لا يرجو جنة ولا يخاف من نار، بل ولا يؤمن بالبعث.. و..هنا دخلت الرسالة الإسلامية فى مرحلة كانت مركزية فى تاريخها ضمن خط تصاعدى فى المواجهة مع قريش وحلفائها وقتها، وقد تكون هى المفصلية بين مراحل المواجهة الكثيرة لسبب، وهو أن قريشًا لضعف حجتها وقلة حيلتها واضطرابها اضطرت أن تضحى بكل الثقل المعنوى الذى كانت تملكه بين القبائل يومها.

لقد كان الحصار بمثابة أحد ضروب الغطرسة والتجبر والعجز أمام رسالة هزّت قناعتها وتاريخها، فتكونت لدى قريش حالة من الهلع، فالمسلمون أولا قد استطاعوا بأسلوبهم النفاذ إلى الخارج، ويقنعون مع الهجرة ملك الحبشة بصواب دعوتهم، وثانيا استطاعوا الدخول إلى بيوت شخصيات قريش فأسلم العديد من أولادهم ونسائهم ومواليهم، ويسبق كل ذلك الثبات والإحساس بالعزّة، حيث لم يتذلل المحاصرون لزعماء قريش، بل علي العكس أخذوا من الحصار توحدًا رغم الاختلاف العقائدى، مما شكل ثقلا أخلاقيا فى التفاوض مع قريش لاحقا، إلى جانب ما عكسه الرسول من أخلاقياته الرفيعة وتعامل المسلمين الهادئ وقوة منطقهم، كل ذلك أثر فى العديد من رجالات قريش الذين شكلوا بدورهم أداة ضغط فى مواجهة الحصار الذى تخلت قريش عنه مرغمة.. ومن أسباب تكيُف المحاصرين وحُسن تدبيرهم علاقات ونفوذ أبى طالب التى فتحت بعض المنافذ وخففت من ضغط الرقابة، وكان فى مال السيدة خديجة المحاصرة معهم عوض من تدنى قدرة الناس الشرائية فى ظل أسعار استغلالية مرتفعة، ومن هُنا يذكر أن الإسلام الأول بُنى على مال خديجة وسيف على.. وفى تلك المناسبة أنشد أبوطالب قصيدته اللامية الشهيرة التى جاء فيها:

ولما رأيت القوم لا ودّ فيهم

وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل

وقد صارحونا بالعداوة والأذى

وقد طاوعوا أمر العدوّ الـمُزايل

وقد حالفوا قومًا علينا أظنه

يعضون غيظا خلفنا بالأنامل

لعمرى لقد كلفت وجدًا بأحمد

فمن مثله فى الناس أى مؤمل

حليم رشيد عادل غير طائش

فواللـه لولا أن أجىء بسبة

لكنا اتبعناه على كل حالة

لقد علمونا أن ابننا لا مكذّب

حدبت بنفسى دونه وحميته

وكان لتلك القصيدة الطويلة مفعولها فى حشد همم بنى هاشم وبنى عبدالمطلب ودخولهم جميعًا مسلميهم ومشركيهم فى حلف الحماية والنصرة للنبى، علمًا بأن هذه النصرة كانت عصبية للقبيلة لا لنصرة الإسلام والدعوة، ومع ذلك قبل الرسول تلك الحماية ليُبين لنا جواز الاستفادة من الأعراف والتقاليد الجاهلية من أجل خدمة الإسلام وتطويعها وفق الشرع، لتكون وسيلة من وسائل النصرة والدعوة لدين اللـه تبارك وتعالى.

فى الحصار الذى أودى بحياة الكثير من بنى مناف وبنى المطلب كان أبوطالب يخاف على الرسول صلى اللـه عليه وسلم، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر الرسول بأن يضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا ما نام القوم أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بنى عمه فيضطجع فى فراش الرسول الذى كان يخرج مع المسلمين فى أيام الموسم فيلقون الناس ويدعونهم للإسلام، ويقول عبداللـه بن عباس رضى اللـه عنه «فحصرنا فى الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنا الميرة (الطعام) حتى أن الرجل منا ليخرج للنفقة فما يبايع حتى يرجع ومن هنا هلك منا من هلك»، ولقد شاهد المحاصرون ويلات ما لم تشهده العرب والإنسانية فى تاريخها من قبل على مدى ثلاث سنوات عجاف، حتى قيض اللـه عز وجل من مشركى مكة أنفسهم من مشى فى نقض تلك الصحيفة الظالمة الجائرة، ففى المحرم سنة عشرة من النبوّة حدث نقض للصحيفة وفك الميثاق، وذلك أن جمع قريش كانوا بين راض بالميثاق وكاره له، فسعى فى نقضها من كان كارهًا لها، وكان القائم بذلك هو هشام بن عمرو العامرى من بنى عامر بن لؤى الذى كان يصل بنى هاشم فى الشعب مستخفيا بالليل بالطعام حيث كان يحمل البعير بما يسد رمق المحاصرين، ويأخذ بخطام البعير حتى يقف علي رأس الشعب، ثم يخلع خطام البعير ويطلقه بما عليه، وكان حكيم بن حزام يرسل الطعام لعمته خديجة بنت خويلد سرًا، ويذهب هشام إلى زهير بن أبى أمية المخزومى ــ وكانت أمه عاتكة بنت عبدالمطلب ــ قائلا يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم؟ فقال: ويحك فماذا أصنع وأنا رجل واحد، أما واللـه لو كان معى آخر لقمت فى نقضها فقال هشام: قد وجدت الآخر.. قال فمن هو: قال: أنا.. قال له زهير: أبغنا رجلا ثالثا، فكان الثالث المطعم بن عدى، والرابع أبى البخترى بن هشام، والخامس زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، ومن ثم اجتمع الخمسة على (الحجون)، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وتبرع زهير بالحديث عنها فى الكعبة، فلما أصبحوا طاف زهير بالبيت سبعًا ثم أقبل على الناس قائلا: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم، واللـه لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.. قال أبوجهل من ناحية المسجد: كذبت واللـه لا تشق وهذا أمر قضى بليل تشاوروا فيه بغير هذا المكان.. كل هذا وأبوطالب جالس فى موضعه ولم يأت إليهم إلا لأن اللـه كان قد اطلع رسوله بأمر الصحيفة وأنه أرسل عليها القرصة (حشرة مدمرة) فى حجم النمل «فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذِكر اللـه عزّ وجل، فأخبر بذلك عمه الذى خرج إلى قريش ليخبرهم بقول ابن أخيه، فإن كان كاذبا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت، وبعد أن دار الكـلام بين القوم وأبى جهل قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد القرصة قد أكلتها إلا «باسمك اللـهم» فقام بنقض الصحيفة وتمزيقها ليخرج الرسول ومن معه من الشعب بعد حصار دام ثلاثة أعوام.

ورغم الأدلة الدامغة والبراهين الساطقة والمعجزات الخارقة، فقد ازداد المشركون كفرا إلى كفرهم، فقد أغلقوا قلوبهم وعقولهم عن الحق فصدق فيهم قوله تعالى: «فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللـه يجحدون»، وقوله سبحانه «وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر» لكن الصبر على الحصار والثبات على الحق كانا بمثابة مرحلة تربوية صنعت جيلا من الصحابة يستطيع مواجهة الأهوال والمصائب دون تردد أو ضعف، جيلا تربى على يد المصطفى ووصفهم تعالى بقوله: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللـه عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا»... خرج الرسول من الشعب واستمرت قريش على قطيعة المسلمين، وبقى أبوطالب يحوط ابن أخيه بالحماية، لكنه كان قد تجاوز الثمانين وضعفت صحته خاصة بعد حصار الشعب، وألحّ عليه المرض، وخاف المشركون سوء سمعتهم فى العرب إذا ما أتوا بمنكر على ابن أخيه، فحاولوا مفاوضته بين يدى عمه للتنازل عن بعض ما لم يقدموه من قبل خاصة وقد أسلم حمزة وعمر بن الخطاب وانتشر خبر دين محمد بين القبائل كلها، وتخوفًا من أن تعيرهم العرب بقولهم: تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه.. مشوا إلى أبى طالب فكلموه وعلى رأسهم العتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبوجهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبوسفيان بن حرب، وغيرهم حتى بلغ عددهم خمسة وعشرين وقالوا للعم ادعه فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه، فبعث له أبوطالب ليقول: هؤلاء أشراف قومك قد أتوا ليعطوك وليأخذوا منك كى لا يتعرض كل فريق للآخر.. فقال الرسول عليه أكمل الصلاة والسلام: «أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها ملكتم بها العرب وأتت لكم بها العجم.. تقولون: لا إله إلا اللـه وتخلعون ما تعبدون دونه»، فقالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟! إن أمرك لعجب»، «وتفرقوا بعد أن قال بعضهم لبعض: هذا الرجل لن يعطيكم شيئا مما تريدون».. وفى هؤلاء نزل قوله تعالى: «ص والقرآن ذى الذكر. بل الذين كفروا فى عزّة وشقاق. كم أهلكنا من قبلهم من قرنِ فنادوا ولات حين مناص وعجبوا أن جاءهم مُنذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب. أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشىء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشىء يراد. ما سمعنا بهذا فى الملّة الآخرة إن هذا إلا اختلاق».

وتُقرر قريش الاتصال باليهود للتأكد من أمر الرسول الصابر الصامد لكل المغريات بعدما قويت شبهتهم فى أن يكون رسولا حقا، ولما كان النضر بن الحارث قد نبههم للنظر فى شأنهم بعدما نزل بهم أمر عظيم، لهذا كلفوه مع آخرين للذهاب ليهود المدينة فقال أحبارهم سلوه عن ثلاث، فإن أخبر فهو نبى مرسل وإلاّ فهو منقول.. سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإن لهم حديثا عجبًا، وسلوه عن رجل طواّف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هى؟!.. وسألت قريش الرسول عن الأمور الثلاثة، فنزلت بعد أيام سورة الكهف وفيها قصة أولئك الفتية أصحاب الكهف، وقصة الرجل الطواّف وهو ذو القرنين، ونزل الجواب عن الروح فى سورة الإسراء ليتبين لقريش أنه صلى اللـه عليه وسلم على حق وصدق ولكن أبى الظالمون إلا كفورًا.

وعلى الرغم من علو منزلة النبى فى قلب عمه ورعايته له صغيرًا، ودفاعه عنه بعد نبوته وصد قريش وأذاها عنه إلا أن أباطالب لم يدخل الإسلام ولم ينطق كلمة التوحيد، وحاول النبى معه ترديدها إلا أنه أبى إلا أن يبقى على ملّة والده عبدالمطلب.. وحزن رسول اللـه كثيرًا لعدم إسلامه فأنزل اللـه تعالى قوله: «إنك لا تهدى من أحببت ولكن اللـه يهدى من يشاء».. توفى أبوطالب فى السنة العاشرة للبعثة فتسبب موته فى الحزن الشديد لرسول اللـه، وبعد موته بثلاثة أيام توفيت السيدة خديجة رضى اللـه عنها زوجة النبى متأثرة بويلات الحصار، فكانت أياما عصيبة لفقده من كانا يؤازرانه وينصرانه ويذودان عنه فى آن واحد ليطلق على عام فقدهما عام الحزن.

و.. يأذن اللـه بنصر دينه، وإعزاز رسوله، وفتح مكة يوم قالوا إنه يوم الملحمة فقال الرسول إنه يوم المرحمة.. ثم حجة الوداع.. وكان النبى يؤثر أن ينزل فى خيف بنى كنانة ليتذكر ما كان المسلمون فيه من الضيق والاضطهاد فى مكة وفى شعب أبى طالب، وحينما سُئل الرسول فى حجة الوداع أين تنزل غدا؟ قال «نحن نازلون غدا بخيف بنى كنانة المحصب حيث تقاسمت قريش على الكفر وذلك أن بنى كنانة حالفت قريشًا على بنى هاشم أن لا يبايعوهم ولا يأووهم» رواه البخارى.

والخيف هو المكان الذى اجتمعت فيه قريش لعقد مقاطعتهم الظالمة.. وقال ابن حجر: «قيل إنما اختار النبى النزول فى ذلك المكان ليتذكر ما كانوا فيه من معاناة، فيشكر اللـه تعالى على ما أنعم عليه من الفتح العظيم وتمكنه من دخول مكة ظاهرًا على رغم أنف من سعى فى إخراجه منها».

فى هذه الأيام التى يضيق فيها الحصار الاقتصادى ومؤامراته الآثمة يذوب القلب حنانا وشجنا فى ذِكر مولد المصطفى عليه صلاة اللـه وسلامه ومعاناة بنى هاشم فى شعب أبى طالب من كان موقفه ودفاعه عن ابن أخيه ما قد يخفف من عذابه حيث قال النبى: «لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة» أبوطالب الذى قال عن الحبيب أكرم خلق اللـه:

حتي أوسد فى التراب دفينا

وأبشر وقرّ بذاك منا عيونا

ولقد صدقت، وكنت ثمّ أمينا

من خير أديان البرية دينا

واللـه لن يصلوا إليك بجمعهم

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

ودعوتنى وعرفت أنك ناصحى

وعرضت دينا.. من خير أديان البرية دينا


لمزيد من مقالات سـناء البيـسى

رابط دائم: