تستعد الإسكندرية خلال أيام لاستقبال أهم حدث ثقافى وحضارى وأثرى، هو إعادة افتتاح «المتحف اليونانى الرومانى» بعد تطويره وتحديثه ليصبح واحدا من أهم المتاحف فى العالم وإعادة الروح إليه. فالمتحف كان قد احتجب طوال أكثر من ١٨ عاماً، وبالتحديد من شهر سبتمبر عام ٢٠٠٥، حينما تهالكت الأسقف وظهرت الحاجة الملحة لترميمه، فأغلق أبوابه وسط حزن زواره وسكان المدينة.
ولكن الحياة تعود إليه الآن، بفضل اهتمام الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى أصدر تعليماته بإحياء المشروع والعمل لإعادة الروح إلى مدينة الإسكندرية ومتحفها اليونانى الرومانى، الذى كان يوما درة المتاحف فى حوض البحر المتوسط .
يقول العميد هشام سمير، مساعد وزير السياحة والآثار للشئون الهندسية والمشرف العام على قطاع المشروعات، إن المتحف نال حياة جديدة بفضل واحد من أكبر مشاريع الترميم والتطوير الذى بلغت تكلفته ٥٦٨ مليون جنيه. ويضيف أن أعمال تطوير وترميم المتحف بشكل يليق بمصر والإسكندرية، يعد واحدا من أهم المشروعات التى تمت خلال الأعوام الماضية بواسطة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، طبقا لبروتوكول التعاون الموقع بين الوزارة والهيئة، لتطوير وترميم ثمانية مواقع أثرية من بينها «المتحف اليونانى الرومانى».
إبداع يتجاوز ضيق الفتارين
بدأت أعمال التطوير والترميم فى شهر فبراير ٢٠١٨ واستمر لمدة خمسة أعوام، تم خلالها الرفع المساحى للمتحف الذى يقع على مساحة ٤٥٠٠ متر مربع، بوسط المدينة. وترميم الواجهات الرئيسية الغربية، والشرقية والحوائط الأثرية الداخلية.
وتم عمل تركيبات للهيكل المعدنى للمبنى الأساسى المكون من (طابق أرضى، وميزانين، وطابق أول) وتدعيم الدور الأرضى الذى يضم القطع الثقيلة والضخمة من الآثار. وبالطبع، تم الانتهاء من أعمال التشطيبات المعمارية للمبنى الإدارى الملحق بالمتحف المكون من (بدروم – طوابق أرضى، وأول، وثانى، وثالث، بالإضافة إلى السطح). ويضاف إلى ذلك، ترميم الحوائط الأثرية، وعزلها وإعادة الباب الرئيسى لحالته الأصلية القديمة والمميزة له، والانتهاء من تشطيبات «الباثيو» ( الفناء الداخلى )، والنافورة.
وبالطبع، جرى اختبار لأنظمة الأمان وتوصيل المرافق بالتنسيق مع المحافظة. كما تم تحديد مسار الزيارة وأماكن الخدمات التى تشمل «الكافيتريا»، و«البازارات»، والمطاعم وقاعة المحاضرات. وتم تخصيص أربع قاعات للدراسة والبحث العلمى والأنشطة. فتم تخصيص قاعة للمكتبة مخصص بها جزء للكتب النادرة. وكذلك قاعة الأرشيف والتسجيل، وقاعة للتربية المتحفية للأطفال، وقاعة الدراسة، بالإضافة إلى قاعة المستنسخات الجبسية.
-
27 قاعة ومجموعة «التناجرا»
تقول الدكتورة منى حجاج، أستاذ الآثار بجامعة الإسكندرية ورئيس جمعية الآثار، إن «المتحف اليونانى الرومانى» مكون من ٢٧ قاعة تضم آلاف القطع ما بين المعروض والموجود بالمخازن. وإن سيناريو العرض المتحفى يُنفذ للمرة الأولى، كسيناريو موضوعى يهتم بنقل رسائل عن حياة الناس فى الفترات الزمنية اليونانية والرومانية، ليعيش الزائر فى رحلته داخل المتحف حياة الناس فى تلك الأزمنة. ويعرف معلومات علمية شيقة ودقيقة، ولكنها بسيطة فى نفس الوقت لتتناسب مع اهتمامات كل الزوار وأعمارهم.
بالأمس كانت المعروضات فى حدود المساحة المتاحة
تضيف الدكتورة منى حجاج أن المتحف فى ثوبه الجديد يقدم نماذج لمبانٍ قديمة مصنوعة حديثاً مثل منزل من العصر الرومانى فى الدور الأرضى. فيقدم رؤية بصرية ممتعة للحياة فى المنازل منذ ألاف السنين، بالإضافة لأجزاء من «بازيلكا»( كنيسة ) قديمة تضم جدارية أصلية من جرجا فى الصعيد، والباقى تم استكماله بطريقة حديثة.
كما أن معبد سوبك ( التمساح )، وفقا لتوضيحات حجاج، الذى كان معروضاً بحديقة المتحف، تم نقله ليُعرض داخل المتحف ذاته، مع عرض متكامل للآثار المكتشفة بجواره أو فى داخله. وللمرة الأولى، سيقوم المتحف بعرض نموذج طبق الأصل لجزء من أحد المراكب الرومانية الغارقة من العصر الرومانى فى الطابق الثانى، وعليها مجموعة أصلية من «الأنفورات»، ( ما يشبه القلل)، والأوانى الفخارية، بهدف توضيح طريقة نقل البضائع على المراكب القديمة. وذلك مع عرض مجموعات مختلفة من «الأنفورات»، التى تختلف من حيث شكلها وتاريخها وورش تصنيعها من مكان لآخر.
كما يضم المتحف مجموعة من لوحات «الموزاييك»، التى تُعرض لأول مرة ومجموعات من «التناجرا» ( وهى تماثيل سميت بهذا المسمى نسبة إلى مدينة تناجرا اليونانية وتمثل فى أغلبها نماذج لسيدات يرتدين الزى اليوناني) التى يتميز بها المتحف والتى تعد من أكبر وأجمل مجموعات «التناجرا» فى العالم.
.. ونالت من الاهتمام والاقبال الكثير
وتضيف حجاج أن افتتاح المتحف سيكون بمثابة عرس لمدينة الإسكندرية، لذا قامت المحافظة برفع كفاءة المنطقة المحيطة، وتحويل شارع المتحف إلى منطقة مشاة، ورفع كفاءة منطقة انتظار «الأتوبيسات السياحية»، وإعادة ترميم وطلاء واجهات العمارات المطلة على المتحف. ورصف وتخطيط الشوارع. وإنشاء ساحة انتظار سيارات بأرض ديوان المحافظة القديم ليصبح المكان لائقاً بالمتحف.
فالمتحف، وفقا لشرح حجاج، كان دوماً منارة للمدينة كما كان عند افتتاحه فى نهاية القرن التاسع عشر بعام واحد، عندما قام مجموعة من العلماء بتكوين جمعية للآثار، لدارسة الآثار الموجودة بالمتحف ونشر معلومات عنها. ومن هنا كانت بداية الجمعية الأثرية التى تعمل جنباً الى جنب مع المتحف العريق .
.. واليوم تعود معروضات «اليونانى الرومانى» أكثر فخامة
-
الأباطرة خارج الـ « فتارين»
ووفقا لبيان صحفى ننقل عن مؤمن عثمان، رئيس قطاع المتاحف بالمجلس الأعلى للآثار، تأكيده، أنه وفقاً لسيناريو العرض المتحفى، فقد تم نقل القطع الأثرية كبيرة ومتوسطة الحجم من عدد من المخازن المتحفية مثل «مارينا» و«ماريا»، وتنصيبها بأماكنها خارج «فتارين» العرض نظرا لضخامتها.
ومن هذه القطع، ما يخص بعض الأباطرة الرومان مثل تمثال «ماركوس آوريليوس»، وآخر لـ «سيبتميوس سيفروس»، وتمثال «بطليموس العاشر»، فى الرداء المصرى. وكذلك تضم تلك المجموعة، رأسا ضخما لـ «ماركوس أنطونيوس» من الجرانيت الرمادى، وتماثيل لعدد من الفلاسفة. يضاف إلى ذلك تابوت نادر يحكى أسطورة أدريان من الرخام، وتمثال لـ «دقلادينوس» من البروفيل الأحمر، وتمثال إيزيس فاريا.
خبرة الحاضر لإعادة الماضى
ويشير الدكتور محمود مبروك، مستشار وزير السياحة والآثار لشئون العرض المتحفى، إلى أنه تم إقامة «معبد التمساح» داخل إحدى القاعات بعد إجراء أعمال الصيانة والترميم اللازمة لجدرانه، خاصة فى ظل تأثرها بمياه الأمطار على مر العصور. ويوضح كيف تم توفير كافة سبل الإتاحة والزيارة الميسرة بالمتحف للأشخاص من ذوى الهمم، سواء من توفير مسار زيارة ومقاعد مخصصة لهم .
يقول الأثرى أحمد عبد الفتاح، مدير عام مواقع وآثار الإسكندرية الأسبق والذى تولى رئاسة المتحف قبل إغلاقه، إن المتحف يرجع تاريخ إنشائه إلى عام ١٨٩٢، حينما تم افتتاحه عام ١٨٩٥. وكان يعرض وقتها، العديد من القطع الأثرية التى عُثر عليها فى الإسكندرية، وما حولها ومعظمها ترجع إلى العصور البطلمية والرومانية. وقد تم تسجيله فى عِداد الآثار الإسلامية والقبطية بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم ٨٢٢ لسنة ١٩٨٣ .
ويضيف عبد الفتاح أن المتحف الجديد يضم قاعة لعرض مجموعة معبد السيرابيوم والتى يتوسطها العجل «أبيس». كما تم تخصيص قاعتين لتمثالى «ماركوس أوريليوس» الممسك بقرن الخيرات، وتمثال الإمبراطور الرومانى «دقلديانوس»، نظراً لأهمية التمثالين. كما سيتم عرض مجموعة «بوباستيون» لأول مرة على الجمهور، وهى مجموعة القطط، التى تمثل العقائد الإغريقية التى كان يعتنقها اليونانيون.
عباس حلمى الثانى - الملك فؤاد - جوزيبى بوتى
يضاف إلى ذلك، مجموعة نادرة من التماثيل الرخامية للأطفال، كانت تقدم كنذور للقطط لشفائهم، والتى تم العثور عليها فى «منطقة كوم الدكة» بالإسكندرية. وينتظر أن يتم عرض مجموعة من الآثار الغارقة، التى تم انتشالها من «بحر أبى قير»، على رأسها «تمثال إيزيس فاريا»، و«لوحة هيراكليون» الجرانيت، والتى تشرح أسلوب تحصيل الجمارك فى العصر الفرعونى. كما سيتم عرض «لوحة الميدوزا» الموازييك ولوحة «أندروميدا» المسجل عليها أسطورة الآلهة المقيدة بالسلاسل. وكل هذه القطع الفريدة تم عرضها بطريقة حديثة وبأحدث أنظمة العرض والإضاءة .
وتقول المرشدة السياحية الزهراء عادل أحمد إن العالم كله ينتظر بفارغ الصبر افتتاح المتحف اليونانى لكونه أول متحف متخصص للآثار اليونانية والرومانية، كما أنه أقدم من المتحف المصرى. وتضيف أن إعادة افتتاحه سوف يسلط الضوء على الإسكندرية، خاصة أن الكثير من الشركات السياحية الأجنبية والبرامج الخاصة بالزيارات تنتظر هذا المتحف منذ أعوام طوال.
وتقول: « يمكننا القول إن عدد السياح القادمين سوف يكونون فى تزايد فى الفترة القادمة كما سيتم تنشيط للحركة السياحية الثقافية بالمدينة، الأمر الذى يسهم فى الحفاظ على تراثها الحضارى.
-
ريادة «مجلس المعارف المصرية»
تاريخيا، كان هناك رأى للأثرية الراحلة درية سعيد، مديرة المتحف لأعوام طويلة ، يقطع بأن أول من اهتم بجمع الآثار اليونانية والرومانية هو «مجلس المعارف المصرية»، والذى كان مقره الإسكندرية.
فقد قام المجلس، بجمع الهدايا التى تبرع بها محبو الآثار، إظهاراً لمفاخر المدينة. وكانت تضم ألواحا حجرية منقوشة باللغة اليونانية عُثر عليها بالجبانة الشرقية، وبعض العملات والأوانى، والتماثيل الفخارية. ولكنها كانت مجموعة قليلة لا تكفى لإنشاء متحف، حسب رواية درية سعيد. وعندما انتقل المجلس للقاهرة حُرمت الإسكندرية من هذه المجموعة النفيسة. ولكن العالم الأثرى الفرنسى أوجست مارييت (1821- 1881) تمكن من جمع بعض القطع الأثرية اليونانية والرومانية، وأقام لها قاعة بمتحف بولاق.
ومن بعده جاء العالم جاستون ماسبيرو( 1846- 1916) وقام بتطوير القسم اليونانى والرومانى، وأضاف اليه مجموعة أخرى من القطع وارد الإسكندرية، و«مدينة نقراطيس»، وهى المستعمرة اليونانية القديمة بمصر، والتى يحل موقعها حاليا بالقرب من «إيتاى البارود»، ولكنه وجد أن وضع هذه المجموعة فى الإسكندرية سوف يضفى عليها بهاء خاصا.
ومن هنا تبلورت فكرة إنشاء «المتحف اليونانى الرومانى»، بالتعاون مع البلدية. فتم الافتتاح فى ١٧ أكتوبر ١٨٩٢ داخل شقة صغيرة مكونة من خمس حجرات فى «شارع رشيد». ونظراً لزيادة عدد القطع الأثرية وعدم كفاية المكان، قررت البلدية بناء مقر المتحف الحالى فى «شارع فؤاد»، وكان المبنى من تصميم المهندس الألمانى «أم . ديتريش» و المهندس الهولندى «ليون ستينون».
ازدحام وإقبال يعود قريبا إلى المتحف
وأقيم مقر المتحف على طراز المبانى الإغريقية السائد فى الإسكندرية بين القرنين الثالث قبل الميلاد إلى الثالث الميلادى. وهى الفترة التى ازدهرت فيها الإسكندرية. وأفتتحه عام 1895 ، الخديو عباس حلمى الثانى (1874- 1944). وكان عدد قاعته، وقتها، حوالى ١١ قاعة، ومجموع قطعه تعدت الثلاثة آلاف بفضل إهداءات بعض رجال الأعمال السكندريين الأجانب، مثل جون أنطونيادس، وغيره. بالإضافة لإهداءات الأمير عمر طوسون(1872- 1944). وكانت تذكرة الدخول ٢ قرش صاغ للأجانب.
كما كان المتحف يزدحم بزواره لأعوام طوال، وحتى قبل إغلاقه. وأشهر من زاره كان الرئيس اليوغوسلافى جوزيف تيتو( 1892- 1980)، والرئيس الأمريكى جيمى كارتر وزوجته، بالإضافة إلى الملك فؤاد (1868- 1936) الذى يقال إنه كان صديقاً لبرتشيا، المدير الإيطالى الثانى للمتحف بعد أن كان جوزيبى بوتى أول مدير له. وقد قام بإهداء المتحف بعض القطع التى كان يقتنيها. كما قام الملك فاروق (1920- 1965) بزيارة المتحف عام ١٩٣٨، وأهداه تمثال الإمبراطور الرومانى «كومودوس».
رابط دائم: