قد يفلح الموت فى أن يأخذ الفرد إلى عالم آخر لا يمكن أن نراه فيه إلا فى الأحلام والذكريات، ولكنه لا يمكن قط أن يأخذ أصداء المسيرة التى يصنعها الفرد؛ وبخاصة عندما تكون المسيرة مشرقة بارزة، صاحبة عطاء متدفق ومثمر. مثل هذه المسيرة تبقى خالدة متميزة، تنداح فى التاريخ وفى الوجود، لتنتج إشعاعات من نور تستمر فى العطاء كلما تقادم التاريخ. وأحسب أن هذا المبدأ ينطبق بشكل كبير على راحلنا العظيم حلمى شعراوى الذى فقدناه فى الأسبوع الماضي. لقد كنت محظوظًا إذ تعرفت عليه وأنا مازلت شابًا صغيرًا حيث التقيته مرات عديدة فى منزل أستاذى الدكتور محمد الجوهرى، وكانا صديقين يجمعهما حب الوطن والآمال الثقافية والعلمية الكبرى. ولقد كان أستاذى حريصًا على أن يقدم تلاميذه إلى أصدقائه من المثقفين والأكاديميين.
لقد مشى حلمى شعراوى خطاه فى طريق واحد لا يحيد عنه، لا تغريه مسارات الطرق الأخرى، ولا يمل ولا يكل من السير الذى يراكم خلفه إنجازات استمرت حتى آخر أيامه. وقد تتفرع به المسيرة فى مسارات، ولكنها تكون دائماً لصيقة الصلة بمبادئ أساسية تؤسس لأخلاق عامة لا يمكن تخطيها بحال من الأحوال، ثقة واطمئنان، وإيمان راسخ بالوطن، وبأن للحياة رسالة يجب أن تنجز، وإخلاص منقطع النظير، يغلفه نقاء ونضارة وصدق.
لم ينشغل حلمى شعراوى بالحصول على درجات علمية؛ رغم أنه يمتلك من الأدوات المنهجية والمعرفية التى تمكنه من الحصول على أعلاها، ولكنه تفرغ لرسالته، والتى بدأها بحبه للتراث الشعبى ودراسته من خلال علاقته بالرائد الكبير فى هذا المجال وهو الأستاذ رشدى صالح. ففى شبابه وبعد تخرجه عمل باحثًا فى مركز الفنون الشعبية التابع لوزارة الثقافة، وأخذ يجوب المحافظات البعيدة ليسجل عناصر مختلفة من التراث الشعبى، ويحفظها على شرائط، ويعود فى كل مرة ليعرض على أساتذته وأصدقائه خبراته الميدانية.
لقد كان القدر يخبئ له شيئا آخر، وهو إفريقيا. فمنذ أن اشتغل تحت إدارة الأستاذ محمد فائق، انشغل بحركات التحرير فى افريقيا، دارسًا ومتابعًا، ومهندسًا لكثير من العلاقات السياسية والاجتماعية مع مصر. ولقد صاحب هذا الجهد السياسى الكبير جهد أكاديمى وبحثى انتهى إلى دراسات ومقالات، تدور كلها حول إفريقيا. ولقد تشعب هذا الاهتمام الأكاديمى فى وجهات عدة بدءًا من التدريس فى الجامعات الإفريقية، إلى تأسيس علاقات قوية مع المؤسسات البحثية الأفريقية، مروراً بترجمة أعمال لكبار المفكرين الأفارقة وانتهاءً بنشر المخطوطات المكتوبة بالحرف العربى فى إفريقيا. لقد شكل حلمى شعراوى من خلال هذا الجهد العظيم جسرًا للتواصل مع القارة، وتحولت علاقته بها إلى علاقة حب وتوحد، ولقد ظل حتى آخر حياته حريصًا على أن يشارك فى أى نشاط ثقافى حول إفريقيا، وكان آخرها مشاركته بورقة بحثية بعنوان: التاريخ والجغرافيا بلا حدود, قدمها إلى مؤتمر نحو إفريقيا بلا حدود الذى عقد فى رحاب مكتبة الإسكندرية يومى ١ و ٢ مارس ٢٠٢٣.
وفى خضم هذا العمل الدءوب فى الحقل الإفريقى، لم يهمل حلمى شعراوى الدور التأسيسى والتدريبي. يظهر ذلك فى نشاطين بارزين فى حياته. ففى المرحلة الأولى منها سخر جهدًا كبيرًا للجمعية الإفريقية. ولقد عملت الجمعية على إعداد كوادر إفريقية، وكانت مركز إشعاع للقارة. وقد وجد شعراوى ضالته فى هذه الجمعية فالتحق عضوًا بها، وشاركها – كما شاركته- همومه فى خلق جسور تعاون مع حركات التحرير فى إفريقيا. ولقد تكامل النشاط الدائم فى الجمعية الإفريقية مع جهد آخر تمثل فى إنشاء مركز الدراسات العربية والأفريقية. كان ذلك فى عام ١٩٨٧ حيث ساهم مع جماعة من المهتمين بالشئون العربية فى تأسيس المركز، ولقد عمل حلمى شعراوى مديرا تنفيذيا للمركز لفترة طويلة، استطاع فيها أن يقدم عديد الأنشطة والدراسات البحثية، والتراجم. ولقد نجح المركز فى تأطير علاقات أكاديمية جيدة مع دول أفريقيا ومؤسساتها الأكاديمية، كما استطاع أن يقدم إلى القراء المصريين عدداً من المثقفين والأكاديميين من إفريقيا من أمثال محمود ممدانى، وآرشى مافيجى، هذا فضلاً عن كثير من المنشورات حول إفريقيا. لقد استطاع المركز (الذى أغلقه قبل وفاته بشهور قليلة لنقص الموارد المالية) أن يؤسس لرصيد بحثى للدراسات الأفريقية، وأن يكون ذراعاً بحثية للمشتغلين بالشأن الأفريقي. وأن يسهم فى تأسيس حقل قوى للدراسات الافريقية فى مصر. ولقد توج كل هذا النشاط حول إفريقيا بتخصيص جائزة باسم جائزة حلمى شعراوى للدراسات الإفريقية تمنح كل عام، منذ عام ٢٠١٠.
نحن إذن بصدد مسيرة عظيمة طويلة امتدت عبر ستين عامًا من العطاء المتدفق الذى لا يكل ولا يمل، ولا يلين لأى اتجاه إلا اتجاه الحق والعدل، والإخلاص والوفاء. لقد حرمته الحياة من أشياء كثيرة من أهمها فقدانه لعمله الرسمى، إلا أنه أبى أن ينسحب أو أن يوقف نشاطه، فظل يعطى حتى آخر لحظة فى حياته، وأتذكر وأنا أكتب هذا الحديث أنه فى آخر لقاء معه، كان يذكرنى بمشاريع وأفكار يود تنفيذها عن إفريقيا فى مكتبة الاسكندرية، ووعد بأن يرسلها لى، ولكن وافته المنية قبل أن يفعل. ولاشك أن مثل هذه المسيرة لا يمكن أن يأخذها الموت كما ألمحت فى بداية هذا المقال؛ فقد حفرت فى التاريخ، وتشعبت لتصل إلى آفاق واسعة فى الزمان والمكان، وفى العقول والنفوس. وإذ تنبض المسيرة بالعمل الوطنى المخلص، فإنها تنبض أيضاً بالكثير من المثل العليا، كما أنها تقدم نموذجًا مثاليًا لما يعرف بالمواطن الصالح. المواطن الذى يعيش لوطنه وللآخرين.
لمزيد من مقالات د. أحمد زايد رابط دائم: