استكمالا لمناقشتنا أسس مشروع الموازنة العامة للدولة عن العام المالى 2023/2024 والمزمع طرحه للنقاش نهاية مارس، وفى ضوء الأوضاع الاقتصادية الحالية وتخفيض مستهدفات عجز الموازنة من 6.1% الى 6.8% خلال العام الحالي، وكذلك أعباء تمويل المصروفات الإضافية الناجمة عن حزمة الإجراءات الاجتماعية الأخيرة، وارتفاع أسعار الفائدة على أوراق الدين الحكومية وزيادة الاستثمارات وغيرها من الموضوعات التى تضع قيودا على صنع الموازنة العامة، فإن هناك العديد من الموضوعات التى يجب ان يعاد النظر فيها، يأتى على رأسها دعم الصادرات. وبعبارة أخرى هل المطلوب الاستمرار فى السياسة الحالية لدعم الصادرات وزيادة المبالغ الموجهة إليها، والتى زادت من 2305 ملايين جنيه فى عام2017/2018 إلى 6 مليارات فى موازنة 2022/2023؟، أم من الأفضل توجيه هذه الأموال الى بنود أخرى فى الدعم؟ تأتى أهمية هذا التساؤل فى ضوء التخفيضات المستمرة فى سعر صرف الجنيه المصري، والتى تعد دعما مباشرا للصادرات، وذلك انطلاقا من هدف أساسى وهو تشجيع الصادرات والحد من الواردات، الأمر الذى يسمح بإبراز التكلفة الحقيقية للسلع والخدمات. وذلك عن طريق تخفيض القيمة الخارجية للعملة بما يسمح بزيادة هوامش الربح فى قطاع التصدير، مقارنة بالقطاعات التى تعمل للسوق الداخلية، وهو ما يؤدى إلى إعادة تخصيص الموارد، بحيث تتحول من إنتاج السلع غير القابلة للتصدير الى تلك التى يمكن تصديرها. الامر الذى يساعد على استقرار الحساب الجارى وزيادة نصيب الصادرات من الإنتاج المحلى، كما يؤدى إلى انخفاض الطلب الى الواردات بما يسمح بوجود فائض للتصدير.وهو ما قامت به الحكومة المصرية منذ 2016 حتى الآن، وتشير الإحصاءات الى ان الصادرات المصرية قد ارتفعت من 26 مليار دولار عام 2017 الى 51.6 مليار عام 2022 مع ملاحظة ان معظم الزيادة جاءت من صادرات الغاز الطبيعى والمنتجات البترولية بينما ظلت الصادرات غير البترولية عند 35 مليار دولار، الامر الذى أدى الى استمرار عجز الميزان التجارى ووصل الى 42.8 مليار دولار نهاية عام 2022. وبالتالى فان العجز المستمر والمتزايد فى الميزان التجاري، هو حصاد لجوانب الخلل الهيكلى فى البنيان الاقتصادى والذى يفرض نفسه على المشكلة النقدية، بحيث يصبح التحرك نحو حل المشكلة الاخيرة، مرهونا بالقضاء على جوانب هذا الخلل؟وبالتالى فاستخدام سعر الصرف كأداة للتصحيح، فى الحالة المصرية، امر ضئيل الأثر، فى ظل استمرار جوانب المشكلة الاقتصادية على ماهى عليه.وبالتالى يتطلب الامر إعادة صياغة السياسة الاقتصادية بما يجعلها كفؤا لزيادة حصيلة الصادرات وجذب رءوس الاموال من الخارج .وبالتالى أصبح من الضرورى إجراء دراسة موضوعية لأوضاع الميزان لمعرفة أوجه الخلل وطبيعته، حتى يمكن وضع أسس العلاج السليمة لهذه المسألة. وبمعنى آخر ينبغى عدم الاكتفاء بكبت أو وقف المشكلات فحسب، بل ينبغى القضاء عليها تماما بغية جعل هذا الوضع قابلا للاستمرار والاستقرار على المدى البعيد، وبالتالى فهناك بعض الاختلالات التى يتم علاجها فى فترة زمنية قصيرة نسبيا، والبعض الآخر يشمل عوائق هيكلية خطيرة على النمو، ولايتم علاجها إلا فى إطار أطول أجلا. وتختلف هاتان الحالتان اختلافا شديدا من حيث تركيز البرامج الإصلاحية المتبعة، ففى حالة علاج الخلل الهيكلى يصبح نمو الصادرات وزيادة الإنتاج من العناصر الأساسية لهذه السياسة، أما فى حالات الأجل القصير، فيفترض أن الطاقة الإنتاجية ثابتة، ولكنها ليست مستخدمة بالكامل.
عموما فان المجتمع المصرى ينطبق عليه افتراض البلدان الصغيرة، أى ان البلد صغير بما فيه الكفاية فى السوق العالمية، بحيث يمكنه بيع اى قدر يؤديه دون التأثير على الأسعار العالمية، اى ان الطلب مرن إلى ما لانهاية وهنا يصبح العرض المحلى هو القيد الفعلى على الصادرات، وبالتالى يتطلب تفسير تناقص الصادرات عملية العرض المحلى. اى دراسة العوامل المؤثرة على الإنتاج المحلى وتلك المؤثرة فى الصادرات. وهكذا فإن السياسة الراهنة مازالت تحتاج الى تعديل شديد، والأهم من ذلك تدهور أوضاع الإنتاج والإنتاجية بالمجتمع، بحيث لم يعد الجهاز الإنتاجى قادرا على تلبية الطلب (بشقيه المحلى والخارجي) وهو ما يتطلب إعادة تخصيص الموارد المتاحة بالمجتمع بغية جعلها اكثر قدرة على التخصص فى انتاج سلع التجارة الدولية، عن طريق زيادة ربحية السلع المعدة للتصدير، عن ربحية المبيعات المحلية وتغيير هيكل الأسعار النسبية بالمجتمع.وهنا يمكننا القول إن زيادة الصادرات ليست ممكنة فى كل الحالات، فهذا أمر يتوقف على مستوى تشغيل عناصر الانتاج، بمعنى آخر فإذا كانت هناك طاقات عاطلة فى المجتمع فمن الممكن حينئذ زيادة إنتاج السلع التصديرية دون تقييد الاستهلاك المحلى، شريطة أن يكون الجهاز الإنتاجى القومى قادرا على ذلك دون زيادة فى المدخلات المستوردة. كما ان الافتراض الخاص، بان مستوى الانتاج يتحدد بعوامل خاصة بجانب العرض فقط غير صحيح، إذ ثبت من التجربة انه لا يتحدد مستوى الإنتاج بمستوى الطلب عليه فقط ولا يكون للأسعار دورها التقليدى فى التوفيق بين العرض والطلب، فإلى حد بعيد يتحدد الانتاج بحجم الطلب وتتحدد الاسعار بهامش فوق التكاليف، ويظل الهامش ثابتا فى الاجل القصير، وفى ظل هذه الحقيقة ينقلب الأثر الحميد لعدد كبير من سياسات برامج الاصلاح، إذ إن انكماش الطلب يؤدى الى انكماش مماثل فى العرض مما يؤثر فى إمكانية تحقيق معدلات عالية لنمو الانتاج.والميزان التجارى على وجه الخصوص، اى ان الاقتصاد المصرى يحتاج الى سياسة تصديرية تهدف إلى إيجاد الصادرات وليست تنمية الصادرات، وهو مالم يتأت إلا عبر إيجاد الميزة النسبية التى يمكن ان تتمتع بها الصادرات المصرية. وكلها امور افضل كثيرا من سياسة الدعم الحالية.
لمزيد من مقالات عبدالفتاح الجبالى رابط دائم: