إن لشهدائنا مكانة رفيعة فى وجداننا، دينيا ووطنيا واجتماعيا، ولقد استحق الشهيد هذه المكانة الرفيعة، لتقديمه أغلى ما يملك من أجل وطنه وهى حياته. وقافلة شهدائنا ممتدة عبر العصور والأجيال، تحكى بالدماء قصة كفاح شعبنا الذى دافع عن تراب بلده ضد المعتدين والطامعين والإرهابيين، وإذا كانت مصر اختارت يوم استشهاد الفريق أول عبدالمنعم رياض ليكون يوم الشهيد، فإن اليوم لا يخص شهيدا واحدا، بل كل من سبقوه ومن لحقوا به، وإن كانت رمزية استشهاد صاحب أعلى رتبة عسكرية، وهو يقف على حافة قناة السويس بين جنوده وضباطه لها الكثير من الدلالات والمعانى التى تشربت فيها العسكرية المصرية روح الفداء والتفانى من أجل الوطن، فالقائد عبدالمنعم رياض لم يجلس فى الخطوط الخلفية، ولم يؤثر السلامة، بل كان فى الخط الأمامى للقتال، لذا كان رمزا استحق كل الحب والتقدير والمكانة الرفيعة فى قلوبنا فى الدنيا وعند الله فى الآخرة.
أهم ما قدمه لنا شهداؤنا الأبرار ليس دماءهم الطاهرة فقط، بل أعطونا القدوة، وأناروا لنا الطريق نحو العطاء، فمن يقدم روحه من أجل عزة وكرامة بلده وشعبه يحث باقى الشعب على أن يحافظ على هذا الوطن من كل ما يعطله، وأن يواجه التحديات بقدر كبير من الشجاعة والإخلاص، وأن يرى فى الحفاظ على الوطن قيمة كبيرة لها مكانة تفوق أى شيء آخر، وتتضاءل أمامه أى معاناة، وإذا كنا اليوم نواجه بعض المشكلات الناجمة عن أزمات عالمية أو ظروف قهرية، فلا ينبغى أن نضن على وطننا بالقليل من المعاناة، بل علينا أن نبذل ما فى طاقتنا من قدرات لكى نحافظ على هذا الوطن، ونأخذ العبرة من قوافل طويلة من شهدائنا، تضحياتنا لا تساوى شيئا بجانب ما قدموه، ولم يسألوا لماذا نقدم نحن حياتنا؟! ولماذا لا يقدم الآخرون مثلنا؟! ولماذا أنا فى البداية؟! كل هذه الأسئلة وغيرها لم يطرحها أى من أبطالنا العظام، وإلا ما أقدموا على الشهادة بكل شجاعة وإيمان واحتساب.
لقد خاضت مصر معارك طويلة وعديدة، وما كان لها أن تحافظ على ترابها ووحدتها طوال هذا التاريخ الطويل لولا تضحيات أبنائها، وحاربت مصر معارك ضد دول قوية وإمبراطوريات لم يكن أحد يتصور أن تنهار، لكنها سقطت وبقيت مصر، وسر هذا البقاء يكمن فى التضحية والفداء، وإذا كنا قد تخلصنا من الإرهاب مؤخرا، وأخرجنا المحتل من أراضينا، فهذا لا يعنى أن تكون قيمة العطاء والتضحية قد تراجعت، بل هى موجودة فى كل عمل صالح، وكل بناء، وكل حبة عرق، وكل تحمل لمشاق الحياة، وكل مجابهة لمن عطل مسيرة التعمير والتقدم.
إن غاية الشهداء كانت أن يظل الوطن عزيزا لا تدنسه قوات احتلال واغتصاب، وأن يعيش الشعب فى أمان واستقرار، وعلينا أن نواصل تحقيق غاية شهدائنا، وأن نقول لهم إن دماءهم الزكية لم تذهب هدرا، وإن الأجيال المتعاقبة ستحافظ على هذا الوطن وتبذل كل غال وثمين من أجل شعبه، فهكذا نرعى للشهداء غرسهم، ونحمل رايتهم، لتظل مصر عزيزة أبية، مهما واجهت من صعاب، لأنها لن تستمر، لأنها مرت بما هو أصعب، واستطاعت التغلب عليه، وواجهت أعتى التحديات. هذه هى القيمة الغالية التى علينا الحفاظ عليها، وأن نمضى فى الطريق الذى أناروه لنا، لنحقق النماء والرخاء بالجهد والعرق والتضحية والصمود فى مواجهة الأزمات.
إن مصر التى شهدت مولد أول تجمعات بشرية منظمة، وانبثقت منها الخيوط الأولى للحضارة المبنية على التنظيم وتقسيم العمل ووضعت المبادئ الأساسية للأخلاق القويمة، استحقت أن تكون طليعة الحضارات ومنبع القيم النبيلة، فكانت طاقة نور للبشرية، وظلت تحمل مشعل الحضارة فى أصعب الظروف، حتى أثناء تعرضها للاحتلال، كانت تؤكد له دوما أنها الأبقى والأفضل، وأنها صاحبة مبادئ وقيم، ومهد الحضارة، لهذا انصهرت فى مصر مختلف الحضارات التى تعاقبت عليها، وصنعت سبيكة قوية يصعب أن تلين. هذا هو إرثنا الطويل والمجيد، صنعته حضارة قديمة، وتشربت المسيحية والإسلام، فكانت عنوانا للتآخى والحب، لا تفرق بين أبنائها، ويتسابق الأبناء فى الذود عنها بمختلف معتقداتهم وأديانهم.
أما الذين كانوا يبذرون الفتنة ويشعلون نار العنف، ويرتكبون المجازر فكان جزاؤهم النبذ والخيبة والهزيمة، بينما الشهداء ينعمون بالدرجة العالية الرفيعة فى الدنيا والآخرة، يمجدهم شعبهم، ويحفظ سيرتهم العطرة، ويقدمها للأجيال الجديدة، لتعرف كيف حافظ الأجداد على هذا البلد، وما قدموه من أجله.
كنت أتابع بعض التعليقات على أزمتنا الراهنة فى منصات التواصل، لأتعرف على مدى الوعى الوطنى بما يدور فى بلدنا وما يواجهه من تحديات، قرأت لغاضبين من ارتفاع الأسعار، وهذا شيء طبيعى، وقرأت لمن ينتقدون ويحاولون أن يقدموا رؤية مغايرة لحل بعض الأزمات، وهذا نقد بناء ليس عليه غبار ما دمنا نختلف من أجل الوطن، وقرأت أيضا لمن يحاولون استغلال تلك الأزمة فى دفع البلاد إلى الفوضى، وهذا نوع لا يريد الخير لبلدنا، ولا يقدم إلا النيران لكى يحرق ما بنيناه بالعرق والدم، وسعدت بأن الردود على هؤلاء كانت قاسية، فالشعب يستطيع التفرقة بين من يشكو الحال ومن يقدم رؤية أو تصورا مختلفا، ومن يسعى إلى استثمار أى أزمة لكى يلحق بنا الخراب والدمار، وهو ما فعلوه وعجزوا عن الوصول إلى مبتغاهم، فكانت أحقادهم أشد، لهذا ينعتون شعبنا بأنه متخاذل، ولا يتحرك فى مواجهة قيادته، لكن شعبنا الواعى الذى استوعب الدرس جيدا، وكشف حقيقة هؤلاء وأهدافهم لا يكترث بهذيانهم، ويمضى متحملا كل الصعاب وهو يدرك أن الطريق نحو تجاوز أى أزمة يكمن فى العمل الجاد المثمر، والتضحية من أجل بقاء وأمان هذه البلاد التى تستحق كل الخير، وسيكون لشعبها ما تمنى، وتتحقق الأحلام عندما يهدأ غبار الأزمات والحروب، وهذا الشعب الذى قد يشكو أو يئن من أزمات المعيشة يعرف الطريق ويثق فى قيادته، ويرى ويسمع ويقرأ عن جهودها، ويعرف أنها حملت روحها على أكفها من أجل إنقاذه، عندما أحبطت مؤامرة الفوضى والإرهاب والتدمير الذاتى التى كانت تستهدف مصر وشعبها، وتريد القضاء عليه، وجره إلى صراعات داخلية لا تبقى شيئا ليعيش عليه أو به.
وهذا هو نبت قيم التضحية والفداء التى بذرها شهداؤنا الأبرار لكى تبقى مصر عزيزة قوية.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثابت رابط دائم: