رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الإبادة الجماعية فى ليبيا (1 ــ2)

باستضافة كريمة من مركز الدراسات الإستراتيجية والسياسية بالأهرام عُقدت يوم الإثنين الماضى حلقة نقاشية حول كتاب: الإبادة الجماعية فى ليبيا «الشر.. تاريخ استعمارى مخفي» لمؤلفه الدكتور على عبداللطيف حميدة خريج قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة وجامعة واشنطن والرئيس المؤسس لقسم العلوم السياسية بجامعة نيو إنجلاند بولاية مين الأمريكية، وهو نموذج لذلك الجيل من الليبيين الذى شق طريقه باقتدار للتعليم الجامعى فى السنوات الأولى لثورة١٩٦٩، وأُتيحت له فرصة التكوين العلمى المتنوع ما بين وطنه ليبيا ووطنه الثانى مصر والولايات المتحدة، فجاء هذا التكوين قويًا متكاملًا أضافت له قدراته الذاتية دون شك حسًا نقديًا أصيلًا سنرى أنه مكنه من تقديم إضافة رفيعة لا للدراسات المتعلقة بتاريخ بلاده فحسب، وإنما بتاريخ العالم الثالث كله بل والتاريخ الأوروبى ذاته كما سيجئ، وكما يقولون فإنك عندما تبدأ من المستوى المحلى الذى تركز عليه دراستك وتبدع فيه فإنك تكتشف أن دلالات ما تتوصل إليه تكون أكثر عمومية بكثير من النطاق المحلى الذى بدأت به، وفى حالة صاحبنا لم تمتد دلالات بحثه من الحالة الليبية إلى الحالات المماثلة عربيًا وإفريقيًا فحسب، وإنما وصلت إلى جوانب خفية فى التاريخ الأوروبى ذاته كما سيجئ، وقد جمعتنى بالمؤلف صلة إنسانية وثيقة منذ تعرفنا فى سبعينيات القرن الماضى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية باعتباره طالبًا متفوقًا فيما كنت فى ذلك الوقت مدرسًا مساعدًا، وامتدت علاقتنا خمسة عقود تباعدت فيها لقاءاتنا عبر الزمن لكن اتصالاتنا استمرت دون انقطاع، وعندما علمت منه بنية حضوره لمصر فى مطلع الشهر الجالى كنت حريصًا على أن تُتاح الفرصة للقاء علمى يعرض فيه المؤلف العزيز ثمرة عمله على نخبة من الأكاديميين المصريين توسيعًا لدائرة النقاش حول هذا العمل المهم وتعزيزًا لفرص انتشاره لما ينطوى عليه من قيمة علمية خاصة، وقد تابعت خطوات إعداده وعرفت درجة المشقة التى تكبدها الباحث فى جهوده للتوصل إلى الحقيقة عندما زارنى فى معهد البحوث والدراسات العربية إبان إدارتى له، وكنت سعيدًا بعثوره على مراجع مهمة فى مكتبة المعهد التى لم تنل حظها من السمعة الطيبة التى تستحقها فى الأوساط الأكاديمية المصرية والعربية، كذلك تابعت الأصداء الإيجابية التى أحدثها الكتاب فى الأوساط الأكاديمية الأمريكية والأوروبية، وقد حصل مثلًا على جائزة الجمعية الأمريكية العلمية للدراسات المغاربية العام الماضي، وقد كان الأستاذ القدير الدكتور محمد عبدالشفيع عيسى «شفاه الله» هو أول من لفت إلى هذا الكتاب فى الساحة الفكرية المصرية بمقالته الرفيعة فى صحيفة الشروق المصرية فى أول فبراير الماضي.

وعندما بدأت محاولاتى لتنظيم لقاء علمى يليق بالكتاب لم أجد إلا استجابة كريمة من الابن العزيز والمدير القدير لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام د. محمد فايز فرحات، وليس هذا مستغربًا من باحث كابد مشقة البحث العلمي، فاستجاب من فوره ووفر للقاء كل عوامل النجاح وحشد له جهاز المركز الذى يضم مجموعة من خيرة العقول المفكرة فى الشئون المصرية والعربية والإفريقية والدولية، فجاء اللقاء الذى امتد لأكثر من ثلاث ساعات ثريًا رفيع المستوى سواء من قِبَل صاحب الكتاب الذى أبدع فى عرضه، أو من جانب الحضور الذين غطت مناقشاتهم جميع أبعاد الموضوع وكشفت عن عمق متابعتهم للقضايا التى أثارها الكتاب، وكانت الثمرة نقاشًا جادًا وخصبًا ومتعمقًا اعتبره صاحب الكتاب-كما أسر لى بعد اللقاء-من أثرى وأخصب اللقاءات التى دارت حول الكتاب، وقد بدأ اللقاء بعرض طويل ومتماسك قدمه الدكتور على لعمله لم يتوقف فيه جزءًا من الثانية لينظر فى ورقة أو يتذكر شيئًا أو يستدرك معلومة، وكان هذا خير دليل على المكابدة التى عايشها لعقد ونصف العقد امتدت عبره جهوده لإنجاز هذا العمل، ومن الطريف أن قائمة الشكر التى استطالت لسبع صفحات بدورها خير دليل على هذه المكابدة، وقد كان الهدف من هذا الجهد المتميز هو سد الفجوة البحثية فيما يتعلق بالتعريف بفظائع الاستعمار الإيطالى لليبيا التى قد لا يعرف الكثيرون عنها سوى مشهد الإعدام العلنى لشيخ الشهداء عمر المختار الذى أراد الفاشيون الإيطاليون به إخماد روح المقاومة لدى الشعب الليبي، لكن الأمر لم يتوقف بطبيعة الحال عند هذا الحد وإنما امتد إلى محاولة تفريغ الشرق الليبى من سكانه، حيث كانت المقاومة قد قُمِعت فى الغرب لكنها استمرت فى الشرق والجنوب حتى عام١٩٣٢برغم الخلل فى ميزان القوى مع المستعمر، ما قاد الفاشيين إلى خطة المعتقلات والإبادة الجماعية بعد ترحيل الأهالى وقبائل الشرق إلى صحراء سرت فى المنطقة الوسطى بحيث يتم التخلص من القاعدة البشرية حاضنة المقاومة من ناحية، وتوطين المستوطنين الطليان من ناحية أخرى، وهو ما يشير إلى السلوك الاستيطانى الأصيل المرتبط بالظاهرة الاستعمارية، ويذكرنا بالممارسات الإسرائيلية فى فلسطين، وقد جُمِّع هؤلاء المرحلون في١٦معسكر اعتقال بلغ عددهم فيها ١١٠٠٠٠ طفل ورجل وامرأة اعتقلوا فى السنوات ما بين١٩٢٩و١٩٣٤ومات أغلبهم جوعًا ومرضًا فى هذه المعتقلات، ويُقدر عدد من لقوا حتفهم بسبب هذه السياسة العنصرية المُمَنهجة التى سماها المؤلف الإبادة الجماعية ما بين٦٠٠٠٠إلى٧٠٠٠٠.

وقد قوبلت هذه الجرائم بصمت تام وتعتيم كامل من الجامعات الإيطالية والأوروبية والأمريكية، وكذلك من الذاكرة الرسمية التى تناست جرائم الفاشية الإيطالية، ناهيك بتغييبها فى الإعلام والثقافة والأفلام، كما أن الفاشية الإيطالية نجت من المساءلة والمحاكمة حتى بعد سقوط دولتها في١٩٤٣على عكس النازية الألمانية، وبالتالى فقد بدأ الباحث من نقطة الصفر، وتأكد من أن الوثائق المتاحة فى مكامنها، وعلى رأسها الأرشيف الإيطالي، لن تسعفه، وهو ما يؤكد نية إخفاء الحقيقة، ومن هنا أخذ على عاتقه مسئولية البحث عن هذه الحقيقة فى مكامنها الأصلية، أى من أفواه الناجين الباقين على قيد الحياة والروايات المنقولة عنهم وثقافتهم بما فى ذلك أشعارهم التى عكست المأساة التى تعرضوا لها، واستغرق منه هذا العمل عقدًا ونصف العقد، لكن الثمرة جاءت جديرة بالمشقة التى كابدها الباحث والتى أعتقد بصدق أنها مثلت إضافة حقيقية للتاريخ الليبى وتاريخ الاستعمار بل والتاريخ الأوروبي، حيث أثبت الصِّلة بين سلوك الإبادة الجماعية الإيطالى فى ليبيا وسلوك المحرقة النازي. وفى المقالة القادمة بإذن الله أبحث فى الدلالات المنهجية والسياسية لهذا العمل العلمى المتفرد.


لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد

رابط دائم: