ناقشت المقالة السابقة دعوة الصديق الأعز الدكتور أسامة الغزالى لإلغاء مجانية التعليم ليس لأنه ضد المبدأ ولكن لما آل إليه الحال من اختفاء فعلى للمجانية، وتناقش هذه المقالة أفكارًا مختلفة بخصوص بدائل العمل لمواجهة هذه المعضلة، ولن تكون نقطة انطلاقى فى هذا الصدد مالية وإنما حضارية أو تنموية إذا جاز التعبير، بمعنى أن المنطلق يجب أن يكون الإيمان المطلق بالتعليم كمفتاح الخلاص لمصر من كل مشكلاتها، فهو السبيل إلى الإجادة فى جميع مواقع التنمية الشاملة، وهو الوسيلة لإبراز المتفوقين من أبنائها وبناتها بحيث يساهمون بعطائهم العلمى فى إيجاد الحلول المبتكرة للمعضلات التى تواجه العمل الوطني، ويعنى هذا الإيمان بالتعليم كمشروع قومى أول، أو على الأقل أن يكون فى صدارة العمل الوطنى مع غيره من الأولويات، فإذا اتفقنا على هذا ليتنا نتفق أيضًا على أنه مبدئيًا يجب ألا يُحرم أحد أيًّا كانت قدراته المالية من فرصة التعليم، فإن أظهر جدية وتفوقًا استمر فى طريقه، وإن تعثر يصبح لكل حادث حديث فيتم فرض رسوم على المتعثرين أو توجيههم إلى مسالك أخرى للتعليم والتدريب تناسب قدراتهم.
وبعد ذلك أو معه تأتى المدرسة فى قلب عملية إصلاح التعليم أو إحداث ثورة فيه، فقد وصل حال المدرسة إلى ما نعرفه جميعًا، وهو أن دورها فى العملية التعليمية قد تراجع بشكل مخيف واختفى تمامًا فى بعض الأحيان، وعندما نتذكر مدارسنا الحكومية فى عقود خلت نشعر بالحسرة، والحقيقة أن ثمة تقصيرًا فى إعادة الاعتبار للمدرسة والجدية فى ذلك، فأين مثلًا الزيارات الميدانية للمدارس من قِبَل كبار المسؤولين بمن فيهم الوزراء الذين تعاقبوا على هذه المهمة النبيلة الحيوية؟ وأين الصرامة فى التعامل مع الطلاب الذين تشجعهم أطراف كثيرة على الغياب؟ وأضعف الإيمان أن من لا يريد المدرسة يجب ألا يبقى فيها، لكن للنفور من المدارس أسبابه، وعلى رأسها أن العملية التعليمية فيها ليست كافية وقد تكون غائبة، وهنا تأتى الأهمية القصوى لتوفير أول عوامل النجاح للمدرسة وهو العدد الكافى من المدرسين الأكفاء، ومن هنا ضرورة وضع خطة شاملة لاستكمال النقص فى أعداد المدرسين بالطريقة الطبيعية وهو تدعيم كليات التربية كمصنع لهؤلاء المدرسين الذين يجب أن تكون مواصفاتهم على أعلى مستوى، وليس هذا بالأمر المستحيل فقد كان مدرسونا فى الأغلب الأعم قدوة من حيث الكفاءة والخُلُق، فإن بقى نقص عددى علينا الاستعانة بالقامات المشهود لها بالكفاءة والإخلاص التى بلغت سن المعاش، وأنا متأكد من أنهم سيسعدون بالمشاركة فى هذا المشروع الوطنى دون نظر إلى المقابل المادى الذى قد يقتصر على الفارق بين معاشاتهم روواتبهم الأصلية، وتبقى أهمية الإدارة المدرسية الكفؤة النزيهة الحازمة المؤمنة بهذا المشروع الوطني، ونماذجها عديدة من خبراتنا الذاتية، لأنه بدون هذه الإدارة يمكن أن يفسد كل شيء، وبطبيعة الحال سنمر بمرحلة انتقالية قد تكون الثقة فيها مهتزة بالمدرسة، وهنا علينا الاهتمام لأقصى حد بالقنوات التليفزيونية التعليمية بإشراف الوزارة كى تكون داعمًا حقيقيًّا للمدرسة وللطلاب ذوى القدرات الأقل.
نصل الآن إلى الأصل فى هذا الحوار وهو معضلة التمويل، وليتنا نتفق على أن الهدف هو أن يكون هناك تعليم رفيع المستوى متاح للجميع، وأن الوضع الراهن مناقض للوضع الدستورى الذى ينص على مجانية التعليم، فما العمل إذا كانت قدراتنا المالية الراهنة لا تسمح بذلك؟ لا مناص فى هذه الظروف من تطبيق مبدأ من كلٍ بحسب قدرته ولكل بحسب حاجته، وأرجو ألا يشطح الخيال بالبعض بعيدًا، فقد فعلها على مبارك الذى أشكر الزميلة العزيزة الأستاذة الدكتورة هدى أباظة على أنها لفتتنى لكتابه الممتع «حياتي», ففى هذا الكتاب قدم فى القرن١٨حلًا يصلح للقرن٢١، ولنتأمل فيما فعله من أنه جعل على أهالى التلامذة المقتدرين شيئًا من النقود يؤخذ منهم برغبتهم كل شهر على حسب اقتدارهم من غير تثقيل عليهم، وباقى المصروف يُصرف من حاصلات الأوقاف الخيرية، ويضيف وكان القصد تعويد الناس للصرف على أولادهم بالتدريج شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى مع توالى الأزمان على الحكومة إلا ما يختص بالمدارس الخصوصية كالمهندس خانة والطب والإدارة ونحوها، ولنتأمل فى دلالات هذه السطور وملاءمتها لواقعنا الحالي، فهو أولًا يُحَمِّل أهالى المقتدرين فحسب بالرسوم على حسب اقتدارهم ودون تثقيل عليهم، بل ويشترط أن يكون ذلك برغبتهم، والمبدأ هنا أن فرض الرسوم يجب أن يتناسق مع القدرات المالية للمواطنين، وهو ثانيًا يحدد «الأوقاف الخيرية» كمصدر تكميلى للتمويل، وفى زماننا يمكن أن يتسع هذا المصدر مجتمعيًا ليشمل مصادر أخرى كثيرة، ويُفْهَم من كلامه ثالثًا أن هذا الحل لا ينطبق على التعليم العالى بحيث يعتبر أن الغرض من اقتراحه هو استمرار تحمل الحكومة مسؤولية ما نسميه حاليًا التعليم العالي، وهو مؤشر أكيد على إدراكه أهمية هذا التعليم، والمهم هنا أنه إزاء الظروف المالية الصعبة لا مانع من تحميل القادرين رسوما معينة يُعفَى منها غير القادرين بشرط إثبات جديتهم، ويجب أن يكون هناك حوار مجتمعى حول حدود هذا المبدأ وشروطه وتفاصيل تطبيقه، وكذلك حوار آخر حول الملاءمة الدستورية لهذه المقترحات، وحول التفكير فى مصادر التمويل المجتمعية المتعددة التى حصرها على مبارك بالأوقاف الخيرية، ويمكن إضافة مصادر عديدة أخرى لها مع تشجيع مؤسسات الأعمال على رعاية مؤسسات تعليمية تتصل بنشاطها بحيث يَصْب مردودها فى مصلحة هذه المؤسسات، وقد يتسع المجال لاحقًا لعرض تجربة معهد البحوث والدراسات العربية الذى شرفت بإدارته (١٩٩٣-٢٠١٣) فى التمويل الذاتي، والباب مفتوح للاجتهاد فى هذه القضية الحيوية لمستقبل الوطن.
لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد رابط دائم: