رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الفن والسياسة .. جدل الاستقلال والاتصال

عندما نتحدث عن الفن ينصرف الذهن إلى كل صور الإبداع والتجديد فى مجالات الموسيقى والسينما والمسرح والفنون التشكيلية كالنحت والرسم، وذلك على اختلاف الأساليب التى يتم بها التعبير الفنى، وهى أساليب دخلت فيها التكنولوجيا الرقمية بقوة على أثر التطورات الهائلة فى هذا المضمار. ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد أهمية الفن. فهو يلعب دورًا مهما فى حياة المجتمعات على أنه جزء أصيل من ثقافتها، وأكثر عناصر تلك الثقافة تعبيرا عن الهوية وحفظا لها.

ويشكل الفن حقلا مستقلا فى الحياة. ويفهم الاستقلال هنا على أنه استقلال نسبى، لا يمنع حدود الحقل من أن يتصل بالحقول الأخرى، ولكنه يحافظ دائما على قوة دفع داخلية تجعله قادراً على الاستمرار فى الوجود مستقلاً بقوة الدفع هذه، بحرص الفاعلين فيه على دفع هذه القوة وعلى ممارسة العمليات الإبداعية بعيداً عن شكليات البيروقراطية وعن أى مصدر للتحيز أو لإخراجها عن دائرة الشروط الفنية المطلوبة لنجاحها.

وعلى هذه الخلفية لا يفهم الفن على أنه انعكاس للواقع فهو تعبير حر عن ذات المبدع وعن رؤيته الفنية الخاصة. فرغم انخراط المبدع فى سياق اجتماعى وثقافى خاص، ورغم أن هذا السياق يقدم له مفاتيح ونوافذ للعمل الفنى، إلا أن التعبير الفنى يظل إبداعاً مستقلاً عن هذا السياق، حتى فى حالات إعادة إنتاج هذا السياق داخل العمل الفنى بطرق مختلفة. وإذا تركنا الفن وذهبنا إلى حقل السياسة، فسوف نجد أنه حقل مستقل أيضاً، بل إن الاستقلال هو شرط أساسى من شروط وجوده واستمراره. ويفهم الاستقلال هنا على أنه استقلال نسبى بالمعنى الذى ذكرناه آنفاً. ويعد حقل السياسة أهم حقول المجتمع، ذلك أنه يتملك أكبر قدر من القوة الضرورية لضبط حركة المجتمع بإنفاذ القانون، وتعبئة الموارد، وحشد كل طاقات المجتمع لتحقيق أهدافه العليا فى الوجود والسيادة والاستقلال والعيش الكريم.

ويؤدى الاستقلال بالسياسة إلى أن تكون أكثر حرصاً على تكوين مسافات واحدة مع كل حقول المجتمع، ومع طبقاته المختلفة، بحيث تكون قادرة على أن تنظم العلاقات بينها، وأن تحقق أعلى درجة من الضبط والتنظيم الإداري.

وإذا كان الاستقلال الذى يتمتع به كل من الحقل الفنى والحقل السياسى هو استقلال نسبى، فإن ذلك يعنى أن العلاقة بينهما ليست مقطوعة. وهذه العلاقة ليست علاقة أدائية تحكمها المصالح المتبادلة، وهى يجب ألا تكون قط كذلك. ولكنها علاقة نسقية تبادلية تتحدد فى ضوء الوظائف المنوطة بكل حقل من الحقول فى التكوين الكلى للأمة. فالفن يتوقع من السياسة أن تعمل على دعم الإبداع، وأن توفر الحرية الكاملة للتعبير الإبداعى بكل صوره، وأن تعمل على الارتقاء بالذائقة الجمالية للنشء، وأن تنشر القيم العليا للفن، وأن ترعى التنافس الفنى الشريف، وأن تنظمه عبر التشريعات، وأن تقدر الأعمال الفنية، وأن توفر الدعم المالى الكافى لنشرها.

وفى مقابل ذلك تتوقع السياسة من الفن أن يعبر عن روح المجتمع وعن مزاجه العام، وأن يحافظ على لغته، ويقدم تاريخه بشكل أمين، ويعمل على البلورة الثقافية للهوية، ويفتح الآفاق نحو التجدد والانطلاق الواثق نحو المستقبل. إن الفن هو الوجه المشرق للحداثة، وهو يمتلك مفاتيحها قبل أن يتملكها حقل آخر من حقول الحياة، ومن ثم فإن المتوقع منه أن يكون أداة انطلاق وتجدد، وأن يصنع من الجمال ما يبعث على الراحة والاطمئنان الاجتماعي. ولكن العلاقة بين الفن والسياسة قلما تتشكل على هذا النحو المثالي. فثمة شواهد من التاريخ ومن المجتمع المعاصر تجعلنا نقف أمام هذه العلاقة بمزيد من الدرس والتنقيح. وتكشف هذه الشواهد عن تدخل عوامل معينة تجعل هذه العلاقة تنأى عن صيغتها المثالية.

من أول هذه العوامل تراجع مستوى التذوق الفنى مما يترتب عليه إنتاج أشكال من الفنون لا تؤدى وظائفها فى الارتقاء بالوجدان العام والخاص، ولكنها تشوه هذا الوجدان وتجعل الفن أداة للترفيه الذى يسعى إلى جنى الأرباح بأى وسيلة، ويضحى بالقيم الفنية الراقية. ويتمثل العامل الثانى فى تدخلات السوق الرأسمالية التى تحاول بشكل دائم أن تجعل الفن وسيلة للربح.

فى هذا الظرف يتحول الفن إلى سلعة، ويصبح رأس المال هو الموجه الأساسى للحركة الفنية. يعمل هذا الظرف على تسطيح الذائقة الجمالية.

ويتمثل العامل الثالث فى التكنولوجيا التى اقتحمت عالم الفن بقوة، واستملكت كل مكوناته لكى تضفى على المكونات السلعية صبغة فنية أو قل صبغة جمالية تجعل المستهلكين أكثر اقبالاً عليها. ونحن لا ننكر أن التكنولوجيا قد أفادت الفن فائدة جليلة، عبر تطويرها للآلات الموسيقية، وأجهزة الإنتاج السينمائى، وأجهزة الإضاءة المسرحية، بل تطوير أدوات نشر الفنون وتلقيها بدءاً من اختراع الطباعة وحتى تكنولوجيا الميتافيرس. وأحسب أن هذا الجانب من الالتقاء بين الفن والتكنولوجيا هو جانب إيجابى طالما أن التكنولوجيا تسهل عمليات نشر الفن واستخداماته المختلفة، وتجعل الفن جزءاً من الحياة.

ولكن هذا الجانب يجب أن يؤخذ بحذر شديد خاصة فيما يتعلق بالنظر إلى المستقبل. فقد تعمل التكنولوجيا فى المستقبل على القضاء على عمليات الإبداع الإنسانية، ليحل محلها الإبداع من خلال الآلة. ولقد شهد العالم كثيرا من الخبرات السياسية التى حدث فيها التقاء تام ما بين الفن والسياسة. ولقد كان لبعضها جوانب إيجابية مهمة تتصل بالدور الذى لعبه الفن فى مقاومة الاستعمار أو إذكاء الروح الوطنية وحشد الهمة نحو بناء المستقبل. ومهما يكن من أمر فإن العلاقة بين الفن والسياسة سوف تظل علاقة معقدة تطرح علينا تنوعات مختلفة على مر الزمن.


لمزيد من مقالات د. أحمد زايد

رابط دائم: