دخلت مصر كتاب الأرقام القياسية العالمية كأول وأقدم دولة مركزية فى التاريخ، ودخلته مرة أخرى عندما حافظت على وحدتها السياسية منذ تأسست لأول مرة عام 3200 قبل الميلاد، باستثناء فترات تفكك قصيرة سرعان ما انتهت على يد قوى الوحدة والحكم المركزى. تقول النظرية السائدة إن النيل قد منح الوحدة والحكم المركزى لمصر بسبب ضرورات السيطرة على مياه النيل وتنظيم استخدامها. هذه النظرية شائعة ومقبولة على نطاق واسع رغم عدد كبير من الحلقات المفقودة. يصعب إنكار دور النيل فى قيام الحضارة المصرية بمكوناتها الاقتصادية والسياسية، أى الزراعة والسلطة المركزية، ولكن ربما قام النيل بهذا الدور ليس بسبب الري، ولكن بسبب ما وفره من سهولة المواصلات والانتقال.
توحدت مصر لأن النهر وفر طريقا للمواصلات فى وقت عزت فيه المواصلات. لاحظ أن مصر توحدت بوجهيها البحرى والقبلى فى زمن لم تكن فيه عربات ولا طرق ممهدة، فكان نقل الجيوش لمسافات بعيدة مسألة شديدة الصعوبة.هل رأيت صورة أو تمثالا للملك مينا أو خوفو يركب حصانا؟ لم يكن الحصان معروفا للمصريين فى زمن الملك مينا موحد القطرين. لم يظهر الحصان فى رسومات المصريين القدماء إلا بعد أن أدخله الغزاة الهكسوس إلى مصر بعد أكثر من ألف وخمسائة عام من توحيدها. انتصرت مصر على الهكسوس مستخدمة الخيل والعربات التى أخذناها عنهم، فاستخدمناها فى بناء أول إمبراطورية مصرية فى بلاد فلسطين وسوريا، خارج حوض النهر وبعيدا عن مجراه الملاحى.
الحصان فى مصر هو حيوان مستورد من السهول الآسيوية البعيدة، ذات المراعى الشاسعة المفتوحة الملائمة للخيول البرية السريعة، أما مصر بالمياه والطين الذى يغمر أراضيها عدة شهور كل عام، والمستنقعات التى غطت القسم الأغلب من دلتا النيل، فقد عرفت الحمار وسيلة للنقل والانتقال، لكن فقط للمسافات القصيرة. حتى الجمل لم يكن معروفا لقدماء المصريين، ولا أظنك رأيت صورة جمل مرسومة على جدران أحد المعابد أو المقابر.
فقد دخل الجمل إلى مصر بعد توحيدها بأكثر من ألفى عام، ويرجح باحثون أنه لم يدخلها إلا مع الرومان الذين أتوا متأخرين جدا.
كيف انتقلت جيوش مينا من طيبة إلى منف لكى تستكمل عملية توحيد البلاد فى ظل غياب وسائل النقل البري؟ الأرجح هو أن انتقال جيوش الموحد مينا تمت باستخدام المراكب النيلية، لأن البديل لذلك هو أن يمشى الجنود مسافة خمسمائة كيلو متر، حاملين أسلحتهم وطعامهم ومتاعهم، وهى مهمة مرهقة لجيش يتحرك مترجلا. ولتسهيل القياس فإن كتب التاريخ توثق أنه عندما شن هانيبعل، قائد قرطاج العسكري، حملته ضد روما، فانتقل بقوة قوامها خمسون ألف جندي، وتسعة آلاف فارس، وتحرك عبر إسبانيا وفرنسا حتى وصل إلى إيطاليا، وعندها كان أكثر من نصف الجنود الراجلين ماتوا قبل أن يدخلوا معركة واحدة.
الخدمة التى أداها النيل لمصر فى هذه الظروف هى توفير وسيلة مواصلات غير مكلفة، يمكنها نقل أعداد كبيرة من الجنود والناس والدواب والمنتجات صعودا وهبوطا فى النهر. فالحركة من الجنوب إلى الشمال تتم بفضل التيار الطبيعى لتدفق مياه النهر فى المجرى المنحدر ناحية البحر، أما الحركة من الشمال للجنوب فتتكفل بها الرياح الشمالية القادمة من جهة البحر المتوسط فى اتجاه الجنوب.
كتب جمال حمدان أن عامل النقل والمواصلات ، كالهيدرولوجيا، عامل توحيد وظيفى محقق فى بيئة مصر النيلية، ففى تناسق نادر يتضافر النهر مع الرياح فى ربط أجزائها ربطا محكما: النهر ينحدر من الجنوب انحدارا تدريجيا لطيفا آخذا بيد الملاحة الهابطة فى يسر وسهولة، والرياح الشمالية السائدة تساعد الملاحة الصاعدة ضد التيار. وقد كان النهر وملاحة النهر أساس انتشار الحضارة داخل الوادى، وكان أيضا وسيلة توحيده سياسيا. قارن هذا بالرافدين فى العراق مثلا، فبينما النيل شريان ملاحى من الدرجة الأولى، لا يكاد الرافدان يصلحان للملاحة إلا الهابطة منها، وحتى هذا بتحفظ إما لشدة اندفاع التيار أو انحداره الجبلى أو عمق الوادى، أما الملاحة الصاعدة فشبه فاقدة تقريبا، حتى لقد كانت الزوارق قديما تبنى فى أعالى النهرين لتقوم برحلة هابطة واحدة تفكك أجزاؤها بعدها عند المصب.
حكم الرومان ثلاثة أرباع العالم القديم، وفى كل مكان ذهبوا إليه شقوا طرقا معبدة لتسهيل تحركات الجيوش وقوافل التجارة، فأصبح الطريق الممهد والمدرج الرومانى هما العلامات المسجلة المميزة للإمبراطورية الرومانية، وطريقة الرومان فى إعلان تبعية البلد لحكمهم. بنى الرومان المدرجات والمعابد فى مصر، لكنهم لم يشقوا فيها طريقا، لأنهم وجدوا فى النيل بديلا أكثر فعالية يربط المعمور المصرى من الشمال للجنوب، فيما تولى فرع النيل المسمى الكانوبى ربط الإسكندرية، تلك المدينة المستحدثة، بالمعمور المصرى.
ليس فى مصر غابات، وهى بلد فقير فى الأشجار الخشبية، لهذا كانت مراكب مصر مصنوعة من البردي. كانت مراكب البردى ملائمة تماما للانتقال فى النيل، لكنها لم تكن مناسبة بنفس القدر للانتقال فى البحار المفتوحة، ولهذا لم تكن مصر قوة بحرية مهمة، ولا كانت لها حضارة تجارية متفوقة، يسافر تجارها إلى البلاد المحيطة بالبحر المتوسط، يؤسسون فيها محطات التجارة والمستوطنات، كما فعل الفينيقيون والإغريق وقرطاج. لقد فزنا بالنهر، فأسسنا حضارة زراعية، وسافرنا فى النيل من الشلال حتى الدلتا مستمتعتين بالانتقال الآمن الذى وفره النهر، فارتبطنا به، وفاتنا أن نخوض البحر بمغامراته واكتشافاته وثرواته، وهو ما انتبهنا إليه أخيرا.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: