كأس العالم ليس مجرد تجمع عالمى فى إحدى دوله لممارسة الرياضة الأهم لمدة شهر كامل، ولكنه حدث ثقافى تتعارف فيه الأمم بعضها البعض وتتنافس فيه بقدراتها وإلهاماتها وتكرم الفائز المستحق ومن هنا فهو إنجاز إنسانى بالدرجة الأولى. لا يقتصر الأمر على مجرد التواجد ولكن العالم كله يشاهد أحداثه بالثوانى فى عصرنا هذا. تميزت كأس العالم المنعقدة فى قطر فى الفترة من 20 نوفمبر-18 ديسمبر بالتفرد الشديد من حيث حجم الإنفاق والاستعدادات التى أنفقت عليها قطر أكثر من 200 بليون دولار. كانت هى البطولة الأجمل التى أفرزت خاسرين وفائزين ليس فقط فى المنافسات والأداء ولكن فى المسالك والتعالى.
ألمانيا هى الخاسر الأكبر فى هذه البطولة. الفريق الذى كان دائما يمثل القدوة والذى كان يلقب بالماكينات، أصابه الصدأ لأنه فقد التركيز الكلى وتبنى السياسة ونسى نفسه. أخفقت ألمانيا فى كل شىء فعلته هذه المرة ولم يخسر أحد مثلها. خسرت البطولة وخرجت من الأدوار الأولى على غير العادة، وخسرت محبة عشرات الملايين من المعجبين لفريقها ولثقافتها التى كانت دائما موضع احترام الجميع. أخفقت عندما تبنى فريقها أسلوب تحد وعنصرية بغير الحق. أخفقت عندما جاء فريقها بطائرة تحوى على جسمها رسوما مثلية مستفزة لعرف وثقافة أمة بأكملها رغم إرسال الفيفا تعليمات محددة تم الاتفاق عليها مع الدولة المنظمة. انصاعت جميع الفرق لتلك التعليمات ولم تلتزم بالعند مثل الفريق الألمانى، رغم أنها وافقت بتاريخ 21 نوفمبر مع ست دول أوروبية هى إنجلترا وفرنسا وبلجيكا والدنمارك وويلز وسويسرا على تعليمات الفيفا وأنهم أرسلوا بعدها ردهم على خطاب الفيفا الذى طالب فيه الدول المشاركة فى كأس العالم بأن هذه بطولة رياضية وليست منتدى سياسيا، وطالب الجميع بعدم ارتداء شارة دعم جماعات المثلية وإلا تعرضت فرقهم للعقاب. بناء على ذلك أصدرت مجموعة الدول السبع بيانا مفاده أن لاعبى تلك الدول سينفذون تعليمات الفيفا التى أعلنتها صراحة أن هناك عقوبة إنذار لكل لاعب مخالف. غير أن الفريق الألمانى لجأ الى طرق أكثر استفزازا لتنفيذ مآربه التى تدعو للدهشة وتستعصى على التفسير.لم يستكف الفريق الألمانى بذلك ولكن أعضاءه وضعوا أيديهم على أفواههم علامة احتجاج واستكبروا استكبارا قبل بداية مباراتهم الأولى مع اليابان. كما أن وزيرة الداخلية الألمانية حضرت وجلست الى جانب رئيس الفيفا وكشفت فيما يشبه التحدى عن كتفها الملتصقة بها علامة المثليين وكأنها تريد خلق مشكلة دبلوماسية مع قطر وتحرج الفيفا. إضافة الى ذلك صدر العديد من التصريحات الألمانية العدوانية ضد مسالك قطر والفيفا من اتحاد الكرة الألمانى الذى فيما يبدو أرادها حربا ومنها أيضا أن ذلك الاتحاد قرر مقاضاة الفيفا فى المحكمة الرياضية. وفى داخل ألمانيا قرر كثير من المقاهى والحانات عدم إذاعة مباريات كأس العالم احتجاجا وغضبا ضد قطر والفيفا. أغضبت تلك الأفعال مئات الملايين ونتجت عنها عملية استقطاب شديدة ضد ألمانيا وضد فريقها الذى كان يستمتع بمحبة الملايين فى البطولات السابقة فى كل من العالم العربى والإسلامى والإفريقى. كان الفريق الألمانى واتحاد كرته كأنهم قادمون لساحة حرب وليس للعب فى بطولة عالمية تتطلب منهم التركيزالكامل والتدريب والبعد عن كل المنغصات والتشتيت مما أدى الى خروج ألمانيا من الدور الأول، وكان خروجها ذلك كأنه نصر لمئات الملايين الذين كانوا فى الماضى من المشجعين الأوفياء للفريق وكأنه فريقهم القومى.
ثانى الخاسرين كان صادق خان عمدة لندن الذى أصدر أوامره بمنع كل الإعلانات عن كأس العالم فى جميع مواصلات لندن، وقاد مظاهرة عدوانية فى العاصمة البريطانية ضد قطر وضد الفيفا. هذا التصعيد أدى الى رد فعل قطرى عنيف بأن قطر ستعيد النظر فى استثماراتها الكبيرة ببريطانيا.
أما الرابحون فهم كثيرون أهمهم دولة قطر التى فاقت فى تنظيمها واستعداداتها كل من سبقوها ونقدوها. كانت الاستعدادات الأمنية والفنية والمنشآت المعمارية للملاعب ووسائل المواصلات والإقامة كأنها من إرم ذات العماد، لدرجة أن بعض البلجيكيين ذكروا عقب رجوعهم لبلدهم فى ردودهم على أسئلة الصحفيين أن ما شاهدوه فى قطر لم تفعله دولة أوروبية من قبل. أما من ناحية الأداء فقد ظهرت فرق صغيرة مثل اليابان وكوريا الجنوبية لتقهر فرقا عملاقة وصاحبة تاريخ. أما الفريق الذى أسر كل العالم فهو أسود المغرب الذى ظهر بمظهر مشرف ومستوى كبير من الندية للفرق العملاقة فى كرة القدم. هزم بلجيكا المصنف الثانى عالميا ثم هزم إسبانيا المرشحة القوية للنهائى ثم هزم البرتغال ليصعد للدور قبل النهائى وليكون أول فريق عربى وإفريقى فى التاريخ يحقق هذه المكانة،وحقق فوزه وحدة عربية فورية تجسدت فى إضاءة أبراج القاهرة ودبى وقطر بالعلم المغربى فى مظاهرة فرح حقيقى لم تحدث من قبل.
تترك هذه البطولة حكايات مثل حكايات ألف ليلة وليلة ستروى للأجيال القادمة فى العالم كله، أهمها حكايات انتصار عرف وثقافة الأمة على ضغوط الدول المتجبرة وعلى العنصرية، وأيضا حكايات البر التى نقلتها وسائل الإعلام العالمى عن بر لاعبى المغرب ومنهم أشرف حكيمى الذى يذكر دائما فضل والديه عليه وأن أمه كانت تعمل خادمة فى البيوت لتنفق عليه وأن والده كان يعمل بائعا جائلا وكيف أنه يجرى عقب كل فوز ليقبل وجنة أمه أمام ثلاثة بلايين مشاهد. كان هناك سفيان بوفال وآخرون يقبلون والديهم فى مظاهرة فريدة لم يعهدها العالم من قبل وتحكى انتصار صمود المبادئ والقيم وتعبر بصدق عن موروثنا الثقافى وأعرافنا وطريقة حياتنا.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: