رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

دروس ما حدث فى ألمانيا

مؤامرة فاشلة للانقلاب والاستيلاء على السلطة فى ألمانيا. هذا هو ما كشفت عنه السلطات الألمانية بعد أن ألقت القبض على مجموعة من المتآمرين ذوى الاتجاهات اليمينية المتطرفة. رغم أن الاستيلاء على السلطة بالقوة فى بلد أوروبى هو أمر بعيد الاحتمال، فإن الاتجاهات اليمينية تزداد قوة وتشددا فى دول أوروبية عدة، وهو أمر له تبعات شديدة الخطورة على السياسة فى دول القارة الأوروبية والاتحاد الأوروبي.

هل يمكن الاستيلاء على السلطة فى بلد أوروبى أو فى الولايات المتحدة بطريق العنف؟ كان هذا ممكنا فى الماضى، ولكنه أصبح شديد الصعوبة الآن بعد أن تطور المجتمع والدولة فى هذه البلاد بطريقة حصنتها ضد الاستيلاء غير الدستورى على السلطة. كان هناك زمن وقعت فيه انقلابات مسلحة فى بلاد أوروبية، ولكن هذا كان منذ زمن بعيد إلى حد كبير. ففى الدنمارك لم تقع محاولات للانقلاب المسلح منذ عام 1784، وفى انجلترا كان القرن السابع عشر زمن ثورات واضطرابات سياسية كبرى، وقعت فيه سبعة انقلابات، كان آخرها عام 1689،وكانت هذه آخر محاولة انقلابية مسجلة فى التاريخ البريطاني. استمرت محاولات الانقلاب فى بعض الدول الأوروبية لفترة أقرب من ذلك، فوقعت آخر محاولة انقلابية فى السويد عام 1917، وهولندا 1918، وفى لاتفيا وليتوانيا والنمسا عام 1934، والبرتغال 1975. لإسبانيا تاريخ حافل بالانقلابات، فقد وقع فيها 36 انقلابا ومحاولة انقلابية، كان آخرها محاولة فاشلة وقعت عام 1986. تاريخ اليونان المستقلة هو الآخر حافل بالانقلابات، فمنذ استقلال اليونان عام 1831 وحتى عام 1975، عندما وقعت آخر محاولة انقلاب فى اليونان، شهدت البلاد 21 انقلابا.

أصبح الانقلاب شديد الصعوبة ومغامرة محكوما عليها بالفشل فى الدول الغربية لأن المجتمعات والدول هناك تطورت بطريقة سمحت بانتشار القوة السياسية فى المجتمع، ومنعت تركزها فى مؤسسات وأشخاص قليلين، بحيث أصبح من غير المجدى السيطرة على بعض مراكز السلطة مهما تبلغ أهميتها، فى حين أصبح من المستحيل على أى مجموعة متآمرة السيطرة على كل مراكز القوة السياسية القادرة على مقاومة الانقلاب.

لقد احتل المتمردون المناصرون للرئيس الأمريكى السابق ترامب مبنى الكونجرس، لكن هذا لم يؤثر كثيرا فى مؤسسات الحكم فى الولايات المتحدة، التى واصلت العمل كالمعتاد، فانسحب المهاجمون فى النهاية بعد أن أحدثوا بعض التلفيات وارتكبوا أعمال شغب من النوع الذى يرتكبه مشجعو الكرة المتعصبون عندما يخسر فريقهم مباراة مهمة. خطط الانقلابيون فى ألمانيا لاحتلال البرلمان، وهى خطة ساذجة لأن السلطة فى ألمانيا لا توجد فى البرلمان، أو أنها لا توجد فى البرلمان فقط، فالسلطة منتشرة فى مواقع ومؤسسات كثيرة جدا يصعب حصرها، ناهيك عن السيطرة عليها، بما يوفر شبكة أمان وحماية مؤسسية فعالة للنظام السياسي.

مؤسسات حماية النظام السياسى فى الديمقراطيات الغربية شديدة التنوع، فإلى جانب العدد الكبير من المؤسسات الدستورية التى يقبض كل منها فقط على جزء صغير من السلطة على المستويات المركزية والمحلية، يوجد هناك عدد كبير جدا من المؤسسات المجتمعية المستقلة ذاتيا، التى ارتبطت مصالحها وعقيدتها السياسية بالنظام السياسى القائم، ومنها أحزاب سياسية ونقابات واتحادات وجمعيات وجامعات ومؤسسات ثقافية، ومنها أيضا وسائل ومؤسسات ومنصات إعلامية، وفى كل هذه المؤسسات يوجد فاعلون يختلفون سياسيا وأيديولوجيا، لكنهم متفقون على التمسك بالنظام السياسى الديمقراطى، ومستعدون للدفاع عنه.

لقد تطورت هذه البنية المعقدة عبر عقود طويلة وقرون عدة، ولم تأت مصادفة، أو لأن الدستور فى هذه البلاد يضم نصوصا معينة، فأعتى الدساتير لا يمكنه إقامة الديمقراطية أو حمايتها، إنما الديمقراطية هى محصلة تطور مجتمعى أصيل طويل الأمد، مغروس فى المجتمع، غير مفروض عليه، يفرز اقتصادا ناجحا يوفر نصيبا ملائما من الثروة لكل فرد، وينتج ثقافة ليبرالية تحترم الأقليات والتعدد وتنبذ العنف وتلتزم بالقانون، ويتجمع فيه الناس حول هوية وطنية بلا تعصب، غيورين على مصالح الوطن وسمعته، حريصين على مراعاة الصالح العام.

ما يقلق الغربيين هو التآكل المتسارع فى قناعة الناس بجدوى الديمقراطية وأهمية العمل فى إطار القانون، والانتشار السريع لاعتقاد خطير بان بلادهم واقعة تحت سيطرة مجموعات نخب أقلوية، يتحكمون فى السلطة والثروة ضد مصالح عموم الناس، ويواصلون السيطرة على الحكم، ويصعب إخراجهم منه عبر انتخابات سليمة.

هذه المعتقدات تسوغ لأصحابها العمل العنيف خارج إطار القانون، كما حدث فى الولايات المتحدة وألمانيا. صحيح أن نفوذ هذه التيارات المتطرفة مازال محدودا، ومازالت أجهزة الأمن قادرة على ملاحقتهم وإحباط مغامراتهم.

غير أن العقلاء فى أوروبا يقرؤن فى هذه الفقاعات علامات شديدة الخطورة، ويحذرون أنه مالم يتم إدخال إصلاحات عميقة على النظم الاقتصادية والسياسية فى بلادهم، فإن القاعدة العريضة المؤيدة للديمقراطية قد تضعف، وتخسر مجتمعاتهم المكاسب السياسية والثقافية الرائعة التى تحققت عبر مئات السنين، فتعود بلادهم إلى زمن الاضطرابات والثورات والانقلابات، فالتاريخ لا يمنح صكا أبديا بالحصانة لأى مجتمع.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: