رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

كلام قديم لم يفقد قيمته

صامويل هنتنجتون هو من أهم علماء السياسة فى العصر الحديث.هنتنجتون مفكر محافظ، الاستقرار عنده قيمة عليا، أعلى من الحرية والتمرد والثورة، ولهذا لا يحبه علماء السياسة والمثقفون الراديكاليون. دعك من السمعة السيئة التى نالها الرجل فى بلادنا بسبب أطروحة صراع الحضارات، وهى تحليل عميق لم يعجب كثيرين منا لأسباب أغلبها ثقافى وأيديولوجي. صراع الحضارات ليس أهم ما كتبه هنتنجتون، فأهم منه ما كتبه عن التطور السياسى فى البلاد النامية، فكان نقلة كبيرة فى دراسة الواقع السياسى لهذه البلاد. النظام السياسى فى مجتمعات متغيرة، هو أهم ما كتب هنتنجتون. كان ذلك قبل قبل نهاية الستينيات، أى قبل أكثر من ستين عاما، ولكن بعض هذا الكلام القديم مازال مثيرا للدهشة.

ظهرت الدول النامية بعد الحرب العالمية الثانية، مع حصول المستعمرات على الاستقلال. شرعت حكومات الدول الجديدة فى تنفيذ برامج تنمية اقتصادية واجتماعية سريعة، لسد الفجوة مع الغرب. الإصلاح الزراعى والتصنيع والتعليم وزيادة حجم ومسئوليات الجهاز الإدارى للدولة، سياسات اشتركت فى تطبيقها كل البلاد النامية. حسب الفكر التنموى السائد فى ذلك الوقت فإن النمو الاقتصادى سيتواصل باضطراد، وأن الاستقرار والفعالية السياسية ستزيد مع كل ارتقاء على سلم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حتى الوصول إلى مرحلة النضج، وعندها ينتج النمو الاقتصادى والاجتماعى استقرارا سياسيا ونظم حكم تمثيلية فعالة. هذا هو ما حدث فى البلاد المتقدمة سابقا، ولابد من حدوثه فى البلاد النامية لاحقا.

انتقد هنتنجتون هذه الرؤية الخطية البسيطة، التى ترى السياسة زائدة ملحقة بالاقتصاد، وأن تحديث الاقتصاد والمجتمع سيؤدى إلى تحديث السياسة. التحديث والتنمية فى السياسة ليست امتدادا تلقائيا للتحديث والتنمية الاقدصادية والاجتماعية، وأنه بينما قد يتواصل التحديث والتنمية الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية، فإن التنمية السياسية قد تتعثر، وتتسبب فى توقف المسيرة كلها. التنمية السياسية لا تحدث باضطراد مواز للتنمية الاقتصادية، والخطر يكمن فى مراحل النمو الاقتصادى المتوسطة، فهى أكثر عرضة للاضطراب السياسى من مراحل النمو المبكرة والمتأخرة؛ فمستويات النمو المنخفض والمرتفع تثيرتحديات أقل مما تثيره مستويات النمو المتوسط.

التنمية السياسية لا تحدث تلقائيا مصاحبة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولا بد من بذل جهد خاص لتحقيقها. هذه هى نصيحة هنتنجتون. بناء المؤسسات هو الجزء الأهم والأصعب فى التنمية السياسية، لهذا فإنه لا بد من الحفاظ على الصالح من المؤسسات القائمة، والتحلى بالصبر والمثابرة لبناء مؤسسات جديدة تدير أزمات النمو حتمية الحدوث وتقودها فى الاتجاه الصحيح.

مؤسسات الحكم، ومؤسسات التمثيل، ومؤسسات حل المنازعات؛ ثلاثة أنواع ثمينة من المؤسسات يجب بناؤها وصيانتها بكل عناية. الأحزاب السياسية هى المؤسسة التى أوصى هنتنجتون بها بشكل خاص، فهى المؤسسة الوحيدة التى يمكنها القيام بمهام الحكم والتمثيل وحل المنازعات فى الوقت نفسه.

مشكلة البلاد النامية هى أنها تريد الإسراع بالتنمية للحاق بالعالم المتقدم، وبالتالى يكون عليها مواجهة تحديات كبيرة بشكل متزامن وفى فترة زمنية قصيرة. فتحديات معقدة مثل مركزة السلطة، والمشاركة السياسية، وبناء شبكة الأمان الاجتماعى، والتكامل الوطنى، والحراك الاجتماعى، والتنمية الاقتصادية، يكون مطلوبا مواجهتها فى زمن قصير، فى حين أن التعامل مع هذه التحديات فى الدول المتقدمة استغرق عقودا طويلة. كثافة التحديات المتزامنة فى الدول النامية يزيد من احتمال نشوب الأزمات السياسية، وتزداد خطورة هذه الأزمات فى مراحل النمو المتوسطة، عندما تتزايد المطالب الشعبية فى وقت تكون فيه الموارد المتاحة غير كافية لتلبية المطالب.

تبدأ التنمية فى بلاد العالم الثالث متأثرة بالغرب، تحاكيه، وتحاول اللحاق به. مع التنمية ينتشر التعليم ووسائل الإعلام، ويتعرف المزيد من الناس على نمط الحياة فى الغرب المتقدم الغنى، وتزيد الرغبة فى اللحاق بالغرب، لكن الموارد المتاحة لا تسمح بمحاكاة الحياة فى الدول المتقدمة، فيحل الإحباط والغضب محل التطلع والأمل. فى الشرق الأوسط احتمالات مضاعفة للإحباط، فبلاد المنطقة محاصرة بين النموذج الغربى الأصلى للرفاهية والحقوق، ونموذج الرفاهية النفطية المفرط فى الاستهلاك، والمقارنة بكلا النموذجين تتسبب فى زيادة الإحباط، وبالتالى فإن التحوط للأزمات فى منطقتنا هو أمر أكثر إلحاحا بكثير منه فى مناطق أخرى.

لا يقيس هنتنجنتون عدم الاستقرار السياسى بكم الاحتجاجات التى تواجه الحكومة، ولكنه يقيسها بالتناسب بين التحديات من ناحية، والموارد السياسية اللازمة لمواجهة هذه التحديات من جهة أخرى. فالمجتمعات الغنية المتقدمة فيها الكثير من التحديات والاحتجاجات، ولكنها أيضا تتمتع بموارد سياسية كافية تمكنها من إدارة التحديات بنجاح، دون أن تسمح لها بإشاعة عدم الاستقرار. على الجانب الآخر فإن المجتمعات الفقيرة فى مراحل النمو المبكرة لا يكون لديها سوى موارد سياسية محدودة، لكنها متناسبة مع حجم التحديات والاحتجاجات الناتجة عن مستوى النمو المتواضع. المشكلة إذن فى المجتمعات متوسطة النمو، والتى يكون فيها الكثير من المتعلمين وسكان المدن، من المشاغبين المتطلعين للرفاهية والمشاركة السياسية، أكثر بكثير مما تسمح به موارد المجتمع، وتحدث الأزمة عندما تعجز الموارد المتاحة عن التعامل مع الضغوط والمطالب المتزايدة، فيحدث عدم الاستقرار. هل يذكرنا هذا التحليل بما حدث فى بلاد عربية شقيقة فى العقود الأخيرة؟.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: