ظلت السياسة عشرات السنين, بل أكثر, تتحكم فى قرارات الدول والشعوب وشهدت منابرها كل ما حدث فى مسيرة الأحداث وكان الساسة هم قادة السفينة حربا وسلاما وأمنا واستقرارا .. كانت الحروب يقررها الساسة وكانت العلاقات والتحالفات والمؤامرات تدار فى كواليس ومنتجعات الساسة وكانوا أصحاب قرارات الحرب وإن قامت الجيوش بهذه المهمة وكان الساسة هم نجوم المجتمعات ما بين الأحزاب والتكتلات والقوى الاجتماعية وأصحاب المصالح
ـــ وكانت هناك علاقات خاصة بين السياسة ورأس المال وإن بقيت الكلمة للسياسة .. حتى وقت قريب كان السياسى هو السلطة والقرار وحتى الحرب والسلام ولكن يبدو أن السياسة تراجعت فى المشهد العالمى وربما على مستوى العالم ومستويات اقل فى الشعوب والدول وأصبح الاقتصاد صاحب الكلمة العليا وإن لم يعترف الساسة بذلك حتى الآن .. هناك شواهد كثيرة تؤكد أن الاقتصاد صاحب الكلمة وسيد القرار وأن العالم كل العالم الآن يخضع لسطوة الاقتصاد
أولاً : إن رأس المال هو الذى يحرك السياسة الآن ربما كان ذلك يحدث سرا فى الخفاء فى عصور سبقت ولكن رأس المال الآن لا يتردد فى أن يكشف عن أهدافه ومصالحه وقراراته إنه يتدخل فى كل شيء انه يسقط الحكومات ويعين سلطة القرار ويتحكم فى العلاقات الدولية وقبل ذلك كله فإنه يتحكم فى أسواق العملات والبورصات والأسعار .. إن التجار يحكمون الأسعار ودرجة التضخم ودخل المواطن، إن التاجر الكبير صاحب الشركة المتعددة الجنسيات فى كل دول العالم هو الذى يحدد أرباح وأسعار التجار الصغار فى دول العالم لأنه المورد وصاحب السلعة وصاحب القرار .. من هنا أصبح الاقتصاد صاحب القرار فى كل بيت انه يحكم بلا جيوش أو مؤسسات أو وزارات انه يدير ذلك كله بأمواله وعملاته والسلع التى يتحكم فيها..
ثانياً : إن الدول الكبرى حكمت العالم بالموارد والأموال والإنتاج والتحكم فى مصادر دخل الدول الأخرى .. إن أمريكا تحكم العالم الآن بالدولار وليس حاملات الطائرات التى تجوب البحار .. إن القوة مطلوبة ولكن الدولار اقوى وعلى مستوى الشعوب الآن فإن الشعوب تدرك أن الاستقلال الحقيقى فى مواردها وقدراتها على توفير مستلزمات الحياة طعاما وشرابا وأمنا .. إن التاجر الآن أصبح أكثر أهمية من السياسى لأن التاجر يبيع الطعام والسياسى يبيع الشعارات والناس الآن تريد الطعام والدولار..
ثالثاً : حين اشتعلت الحرب بين روسيا وأوكرانيا كان الاقتصاد صاحب الكلمة وبدء الصراع بين البترول والعقوبات الاقتصادية وقطعت روسيا الغاز وفرضت أمريكا وأوروبا العقوبات وكانت المعارك تدور فى ساحة القتال .. ولكن كانت هناك معارك أكثر ضراوة بين البنوك والمؤسسات والروبل والدولار ولم تحسم المعارك بالسلاح حتى الآن .. وسوف تبقى معارك المال والبترول والاقتصاد مفتوحة ربما لسنوات .. لقد أثبتت الحرب الروسية ـ الأوكرانية أن هناك حربا جديدة غير أسلحة الدمار الشامل وأن الغاز يمكن أن يكون دمارا جديدا، وعلى العالم أن يستعد الآن للحرب الاقتصادية الجديدة لأنها اخطر ما يهدد حياة الإنسان حين لا يجد الطعام ويموت دون إطلاق رصاصة واحدة..
رابعاً : إن العصر القادم سيكون عصر الاقتصاد وسوف تقف السياسة فى انتظار ما يمليه صاحب القرار الجديد وسوف تكون السياسة فى خدمة الاقتصاد .. انه السلطان الجديد يتحكم فى العملات ارتفاعا وهبوطا ويتحكم فى الطعام والدواء والتعليم والخدمات، انه صاحب القرار فى كل شيء وعلى العالم أن يخضع للسلطان الجديد .. إن هذا الواقع الجديد لن يكون فقط على مستوى العالم أو الدول والشعوب ولكنه سوف يصل إلى الأسرة والفرد لأنه سيكون صاحب القرار فى طعامه وسكنه وعمله وهنا سوف تكون الأعباء كلها على أصحاب القرار ومدى نجاحهم فى توفير احتياجات شعوبهم وتوفير الحياة الكريمة لهم .. ولهذا فإن المستقبل القريب جدا سوف يكون فى حاجة إلى حكمة الاقتصاد أكثر من حاجته إلى شعارات الساسة..
خامساً : هنا لابد أن يطرح هذا السؤال نفسه وأين نحن من هذه التحولات التى ستغير الكثير من الحسابات .. إننى ألاحظ فى السنوات الأخيرة أن معظم الساسة قد انسحبوا من المشهد تماما ربما شعر العقلاء منهم بأن الزمان تغير وأن سطوة المال تغلب بريق الفكر وأن الشارع يريد الطعام ولا تستهويه قصيدة شعر وأن احتياجات البطون أصبحت أهم من احتياجات العقول .. إن تراجع الثقافة والإبداع والفن الجميل وكل هذه الأشياء لا مكان لها فى البورصة وسعر الدولار وأن عالم الفكر يوشك أن يختفى أمام ارتفاع الأسعار والتضخم والصراخ على الفضائيات .. وكان من الضرورى أن يتخفى الساسة فى أثواب الاقتصاد صاحب الكلمة ولم يعد من الضرورى أن تشهد الساحة رموزا جديدة فى أحزاب جديدة وأن الأفضل أن يكون الحديث عن التضخم والاستيراد وأسعار الأراضى والعقارات وان نستعد لزمان قادم تغيرت كل الأشياء فيه .. هل أصبح من الضرورى أن تكون الكلمة للاقتصاد أمام ما يشهده العالم من متغيرات .. لقد أصبح العالم قرية صغيرة ويبدو انه لا مستقبل للسياسة وأن الاقتصاد سوف يحكم العالم .. قد يرى البعض أن الاقتصاد كان يحكم العالم منذ مئات السنين ولكن الجديد انه كشف عن وجهه وأعطى للسياسة إجازة ..
ـــ يبقى السؤال ما هى نهاية المعارك بين روسيا وأوكرانيا وما هو مستقبل الحرب الاقتصادية التى غيرت حسابات السياسة وجعلت الاقتصاد صاحب الكلمة والقرار .. وهل تنتهى هذه المعارك بظهور منظومة جديدة تلغى واقع وحقيقة القطب الواحد وتسقط معها سطوة الدولار والهيمنة الاقتصادية أم أن العالم سوف يشهد واقعا جديدا لم تتحدد ملامحه حتى الآن ..
ـــ إن على الدول النامية والفقيرة أن تلجأ إلى قدراتها الحقيقية فى البشر والموارد حتى لا تواجه مصيرا غامضا يهدد وجودها .. أصبح العالم الآن فى حاجة إلى أن تستعين الشعوب بأفضل الخبرات فيها لأن التحديات اكبر بكثير من قدرات الأفراد وإمكاناتهم مهما كانت .. نحن أمام تحديات غير مسبوقة وتحتاج إلى حلول خارج الصندوق وقد تلجأ الشعوب إلى الانغلاق على نفسها بما فى ذلك الدول الكبرى حيث لا عاصم اليوم من أمر الله..
..ويبقى الشعر
سَيَأْتِى إِلَيْكِ زَمَانٌ جَدِيدٌ
وَفِيّ مَوْكِبَ الشَّوْقِ يَمْضِى زَمَّانِي
وَقَدْ يُحَمَّلُ الرَّوْضَ زَهْرًا ندياً
وَيَرْجِعُ لِلقَلْبِ عَطِرٍ الَأمَانِي
وَقَدْ يَسْكُبُ اللَّيْلَ لَحْنًا شجياً
فَيَأْتِيكِ صَوْتِيّ حَزِين الأَغَانِي
وَقَدْ يَحْمِلُ العُمْرُ حُلْمًا وَلِيداً
لِحُبِّ جَدِيدٍ سَيَأْتِى مَكَانِي
وَلَكِن قَلبَكِ مَهْمَا اِفْتَرَقْنَا
سَيشْتَاقُ صَوْتِى .. وذَكْرَى حَنَانِي
***
سيَأْتِى إِلَيْكِ زَمَانٌ جَدِيدٌ
وَيُصْبِحُ وَجهِى خَيَّالًا عَبَرْ
وَنُقْرَأُ فِى الَّليْلِ شُعْرًا جَمِيلاً
يَذُوبُ حَنِينًا كَضَوْءِ القَمَرْ
وَفِى لَحْظَةٍ نَسْتَعِيدُ الزَّمَانَ
وَنُذَكرُ عُمْرًا مَضَى وَاِنْدَثَرْ
فَيُرْجِعُ لِلقَلْبِ دِفْءُ الحَيَاةِ
وَيَنْسَابُ كَالضَّوْءِ صَوْتُ المَطَرْ
وَلَنْ نَسْتَعِيدَ حكايا العِتَابِ
وَلَا منْ أَحَبَّ .. وَلَا مِنْ غَدَرْ
***
إذَا مَا أَطَلَّتْ عُيُونُ القَصِيدَةْ
وَطَافَتْ مَعَ الشَّوْقِ حَيّرِى شريدَةْ
سَيَأْتِيكِ صَوْتِى يَشُقُّ السُّكُونَ
وَفِيّ كُلّ ذَكَريّ جِرَاحُ جَدِيدَةٌ
وَفِيٌّ كُلُّ لَحْنٍ سَتُجْرِى دُمُوعٌ
وَتَعْصِفُ بِى كِبْرِيَاءَ عَنِيدَةَ
وَتَعْبُرُ فِى الأُفْقِ أَسْرَابَ عُمْرِي
طُيُورًا مِنْ الحُلْمِ صَارَتْ عِنيدَةْ
وَإِنْ فَرَّقَتْنَا دُرُوبٌ أَلَامَانِي
فَقَدْ نَلْتَقِى صُدْفَةً فِى قَصِيدَةْ
***
سَتُعَبِّرُ يَوْمًا عَلَى وَجْنَتَيْكِ
نَسَائِمُ كَالفَجْرِ سَكْرَى بَرِيئَة
فَتَبْدُو لِعَيْنَيْكِ ذِكْرَى هَوَانَا
شُمُوعًا عَلَى الدّرب كَانَتْ مُضِيئَة
وَيَبْقَى عَلَى البُعْدِ طَيْفٌ جَمِيلٌ
تَوَدِّينَ فِى كُلِّ يَوْمِ مَجِيئِهْ
إِذَا كَانَ بَعْدَكِ عَنَى اِخْتِيَارًا
فَإِنَّ لقانا وَرَبِى مَشِيئةْ
لَقَدْ كُنْتِ فِى القِرَبِ أَغْلَى ذُنُوبِي
وَكُنْتِ عَلَى البُعْدِ أَحْلَى خَطِيئَةْ
***
وَإِنْ لَاحَ فِى الأُفْقِ طَيْفُ الخَرِيفِ
وَحَامَتْ عَلَيْنَا هُمُومُ الصَّقِيعْ
وَلَاحَتْ أَمَامَكِ أَيَّامُ عُمْرِي
وَحَلَّقَ كالغَيْمُ وَجْهَ الرَّبِيعْ
وَفِيّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِى الشِّتَاءِ
سَيَغْفُو بِصُدَرِكِ حُلْمٌ وَدِيعْ
تَعَوّدٍ مَعَ الدِّفْءِ ذِكْرَيْ اللَّيَالِي
وَتَنْسَابُ فِينَا بِحَارُ الدُّمُوعْ
وَيَصْرُخُ فِى القَلْبِ شِيء يُنَادِي:
أَمّا مِنْ طَرِيقٍ لَنَا .. لِلرُّجُوعْ؟
***
وَإِنْ لَاحَ وَجْهُكِ فَوْقَ الْمَرَايَا
وَعَادَ لَنَا الأَمْسُ يَرْوَى الحَكَايَا
وَأَصْبَحَ عِطْرُكِ قَيْدًا ثَقِيلاً
يُمَزِّقُ قَلْبِى .. وَيُدْمى خُطَايَا
وُجُوهٍ مِنْ النَّاسِ مَرْت عَلَيْنَا
وَفيِ آخِرِ الدَّرْب صَارُوا بَقَايَا
وَلَكِنَّ وَجهَكِ رَغْمَ الرَّحِيلِ
إِذَا غَابٌ طَيْفًا .. بَدَا فِى دِمَايَا
فَإِنْ صَارَ عُمْرُكِ بَعدِى مَرَايَا
فَلَنْ تَلْمَحِى فِيهِ شيئا سِوَايَا
***
وَإِنْ زَارَنَا الشَّوْقُ يَوْمًا .. وَنَادَي
وَغَنِيّ لَنَا مَا مَضَى .. وَاِسْتَعَادَا
وَعَادَ إِلَى القَلْبِ عَهْدٌ الجُنُونِ
فَزَادَ اِحْتِرَاقًا .. وَزِدْنَا بعَادَا
لَقَدْ عَاشَ قَلْبَيْ مِثْلَ النَّسِيمِ
إِذَا ذَاقَ عَطِرًا جَمِيلًا تَهَادَي
وَكَمْ كَانَ يَصْرُخُ مِثْلَ الحَرِيقِ
إِذَا مَا رَأَى النَّارَ سَكْرَى تَمَادَي!
فَهَلَّ أَخْطَأُ القَلْبُ حِينَ اِلْتَقَيْنَا
وفى نَشْوَةَ العِشْقِ صِرْنَا رَمَادًا
***
كُئوسٌ تَوَالَتْ عَلَيْنَا فَذُقْنَا
بِهَا الحُزْنَ حِينًا .. وَحِينًا سُهَادَا
طُيُورٌ تُحَلِّقُ فِى كُلِّ أَرْضٍ
وَتَخْتَارُ فِى كُلِّ يَوْمٍ .. بِلادَا
تَوَالَتْ عَلَى الرَّوْضِ أَسْرَابُ طَيْرٍ
وَكَمْ طَارَ قَلْبِى إِلَيْهَا وَعَادَا!
فَرَغْمَ اِتِّسَاعِ الفَضَاءِ البَعِيدِ
فَكُم حِنَّ قَلْبِى .. وَغَنِى .. وَنَادَي!
وَكَمْ لِمَتَّه حِينَ ذَابَ اِشْتِيَاقًا
وَمَا زَادَه اللَّوْمُ إِلَّا عَنَادَا!
-------------------
قصيدة كبرياء سنة 2003
[email protected]لمزيد من مقالات يكتبها ــ فاروق جويدة رابط دائم: