فى عشية الانتخابات الأمريكية التى أجريت فى الثامن من نوفمبر الحالى نشرت صحيفة الواشنطن بوست مقالا متشائما معبرا عن الاتجاه الذى تسلكه الديمقراطية الأمريكية فى السنوات الست الأخيرة بعنوان: أمريكا تنزلق نحو التشدد والاستبداد. كان مقالا واقعيا وعاكسا للتفاعل الذى يجرى فى البوتقة الأمريكية وما يتداوله الجميع فى كل وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية قبل الانتخابات. كان وصفا دقيقا لتوقع موجة جمهورية عاتية تلوح فى الأفق قد تفوق فى شدتها الموجة التى حاقت بالرئيس أوباما بعد سنتين من حكمه فى انتخابات عام 2010، والتى نتج حينها فقدان الأغلبية الديمقراطية الكاسحة التى كان يتمتع بها الحزب الديمقراطى حيث فاز الجمهوريون حينها فى مجلس النواب بأغلبية ساحقة قدرها 63 صوتا، وفى مجلس الشيوخ تقلصت الأغلبية الديمقراطية الى 56 عضوا بعد أن كانت 62 عضوا، وهو الأمر الذى كبح جماح أجندة الرئيس السابق أوباما وأضعفه إضعافا كبيرا. عندما جاء يوم انتخابات 2022 الموعود ظنت أمريكا أنها القارعة المنتظرة التى كان يخشاها الجميع، والتى كان يحلم بها الجمهوريون. نعم فاز الحزب الجمهورى بأغلبية ضئيلة فى مجلس النواب، ولكنها ليست الأغلبية المنتظرة التى ظن الجميع أنها ستكون طاغية وغالبة على أمرها وفاز الديمقراطيون بأغلبية ضئيلة فى مجلس الشيوخ قدرها عضو واحد، إضافة الى ما سيحدث فى انتخابات الإعادة فى ولاية جورجيا، والتى ستحدث فى السادس من ديسمبر القادم. هى إعادة تكاد تكون مضمونة النتائج للحزب الديمقراطى، لأن المرشح الديمقراطى كان الفائز فيها ولكن قانون جورجيا يحتم ضرورة حصول الفائز على أكثر من 50% من أصوات الناخبين. يمكن الآن القول بعد أن وضعت حروب تلك الانتخابات أوزارها أن نتائج تلك الانتخابات برهنت على عدم صحة ما ورد فى مقال الواشنطن بوست من تشاؤم، وأن ماحدث فيها هو عكس ذلك، حيث لم تحدث عمليات فوضى أو تهديدات أو فوز مبين للجمهوريين كما كان منتظرا، إضافة الى أنها أسقطت نظرية المؤامرة التى تبناها الرئيس السابق ترامب ومؤيدوه بعد هزيمته فى انتخابات 2020، وترديده فى كل محفل أن تلك الانتخابات زورت حينها لصالح المرشح الديمقراطى بايدن والذى فاز بها ظلما وعدوانا على حد قوله، وهو الأمر الذى أدى الى ترشح العديد من أتباعه فى انتخابات 2022، والذين عكفوا على تكرار ما يقوله ترامب وعلى دعمه لهم وتزكيته المتكررة لهم ليكونوا له سندا. عندما ظهر فى التليفزيون فى اليوم التالى للانتخابات اعترف بما حدث على استحياء لأول مرة بسقوط الذين اتبعوه. على النقيض خرج الرئيس بايدن فى نفس التوقيت وعقد مؤتمرا صحفيا، وكان منتشيا كأن عمرا جديدا قد كتب له كما نقول نحن فى مصر.ظن الجميع قبلها أن رئاسته ستنتهى فعليا عقب تلك الانتخابات. كان الرجل سعيدا وكانت إجاباته لأسئلة الصحفيين أن إدارته حققت ما لم تحققه إدارة أمريكية من قبل خلال العشرين عاما الماضية فى انتخابات منتصف الترم، والتى كانت تأتى دائما بنتائج قاسية على أى رئيس بعد عامين من انتخابه وأنه حقق إصلاح كثير من الأمور التى أعادت للانتخابات الأمريكية كثيرا من مهابتها المعهودة التى كانت تفتخر بها أمريكا دائما، وأن سياساته الاقتصادية الناجحة وخصوصا إبان جائحة كورونا وما قدمه خلالها من مساعدات كبيرة لغالبية الأمريكيين مكنتهم من اجتياز تلك المحنة خير دليل على ذلك. كان الرئيس فخورا بإنجازاته لدرجة جعلته يعلن ترشحه لفترة رئاسية ثانية.
رغم احتفاء الديمقراطيين بالنتائج إلا أن كثيرا من المشاكل المعقدة فى انتظارهم على أرض الواقع، وأن أجندة الجمهوريين المعلنة وغير المعلنة للانتقام من الرئيس بايدن ستحدث. لقد أعلنها قادة مجلس النواب الجمهوريون، كما أعلنها الرئيس السابق ترامب من قبل على الملأ إنهم يريدون من مجلس النواب ذى الأغلبية الجمهورية أن يقوم بإجراءات عزل الرئيس بايدن مثلما فعلها الديمقراطيون مع ترامب مرتين أثناء حكمه. ستكون البداية المتوقعة للمجلس الجديد أن يقوم المجلس بأغلبيته الضئيلة بالتحقيق مع هنتر ابن الرئيس بايدن، والذى تربطه بأوكرانيا علاقات يعتقد الجمهوريون أنها مشبوهة رغم براءته منها. فى نظرهم سيكون ذلك عاملا مضعفا لفرص الديمقراطيين فى انتخابات 2024. إضافة الى ذلك ورغم حماس الكثيرين بنتائج الانتخابات، فإن الأغلبية الجمهورية المحدودة فى مجلس النواب التى أفرزتها تلك الانتخابات ستمكنها من تنفيذ أجندتها الانتقامية المعلنة وغير المعلنة وستحاول أن تعيق غالبية مطالب الرئيس بايدن مثل دعمه غير المحدود لأوكرانيا بالمال والعتاد فى حربها مع روسيا، وهو الأمر الذى قد يسهم فى ضرورة إيجاد حل للحرب الأوكرانية الروسية، وسيجبر الرئيس بايدن على الرضوخ لمطالب الجمهوريين بهذا الصدد. سيحاول المجلس الجديد إيقاف أجندته بالكامل فى العامين القادمين بكل ما يملكون من تشريعات وقوانين تقف معهم فى هذه الحالة.
ربما يكون أهم تداعى تلك الانتخابات هو تحجيم دور الرئيس السابق ترامب الذى كان يخوف أولياءه والذى ظنه الجميع حاكما على الحزب الجمهورى، ومثيرا للرعب على كل مختلف معه وأن مجرد اختلاف ولو بسيطا، معه كان يودى بذلك المختلف مثلما حدث مع العضوة الجمهورية البارزة ليز تشينى، والتى كانت مختلفة مع سياساته فكانت إحدى ضحاياه رغم كفاءتها. لقد خسر ترامب، وخسر غالبية المرشحين الذين دعمهم، أنه سيخسر فى حالة ترشحه فى الانتخابات الرئاسية عام 2024. لقد بدأت بعض أصوات الكثيرين فى الحزب الجمهورى تعلو أن ترامب هو من كلفهم الخسارة الواضحة فى انتخابات 2022، وأن ترشحه لانتخابات 2024 سيكلفهم الخسارة فى تلك الانتخابات حتما.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: